عاطف بشاي
«من أنت يا ولد يا تافه يا مغرور حتى تقول إن الشعراء العظام أبوتمام والبحترى والمتنبى لا يعجبونك؟».
هكذا صاح أستاذ اللغة العربية بانفعال وسخط وحنق فى تلميذ طلب منه أن يذكر بيتًا من الشعر قاله «المتنبى» فى مدح أحد الخلفاء..
فأجابه الصبى موضحًا أن هؤلاء الشعراء منافقون يكيلون المديح للحاكم إذا أغدق عليهم بالمال.. فإذا ما كف يده البيضاء عنهم ذموه ولعنوه بعنف فى قصائد أخرى.. فضاق صدر المعلم به وسخر منه ووبخه بحدة لتطاوله على فحول الشعر العربى.. مؤكدًا له أن دوره كتلميذ ينحصر فى حفظ أبيات الشعر المقررة عليه واستخراج جوانب الجمال والبلاغة فى القصيدة التى يدرسها.. لكن الطالب يرفض رفضًا قاطعًا أن يحفظ القصيدة، مستنكرًا أى جمال يسبغه على قصيدة لشاعر مبتز.. وبلا خلق.. إنه القبح بعينه.. المعلم يهدده بالرسوب ويعاقبه بالطرد من الفصل وعدم العودة إلى المدرسة إلا ومعه ولى أمره.
كان هذا المشهد من الفيلم التليفزيونى «محاكمة على بابا» الذى كتبت له السيناريو والحوار عن قصة قصيرة لأحمد رجب فى الثمانينيات من القرن الماضى، وناقشت من خلاله مناهج التعليم فى مراحله المختلفة منذ أزمنة لا تقبل المغاير وتقدس السائد والمألوف.. وتحمى الأصولية المتحجرة وتحتفى بالموروثات العتيقة التى تعادى الحرية والتطور.. وتفزع من الإباحة وتسعى لاعتقال العقل الباحث عن الحقيقة.. وقد أحدث الفيلم ردود أفعال واسعة النطاق، وتحمس وزير التربية والتعليم وقتها لطرح قضية المناهج ومفهوم الهدف من التعليم.. ودعا إلى عقد مؤتمر موسع لمناقشة ما طرحته من خلال الفيلم من أوجه القصور سعيًا لثورة تعليمية شاملة.. لكن لا المؤتمر عُقد ولا المناهج تغيرت منذ ذلك التاريخ وحتى تقلد د. طارق شوقى منصب وزير التربية والتعليم، وسعى مخلصًا إلى التطوير المأمول.
ولكن ما إن لاحت فى الأفق إرهاصات التغيير المنشود حتى ثارت العواصف والزوابع ضده، وقد تابعت الفزع الهائل والهلع الطاغى والذعر البالغ الواضح فى ردود أفعال أولياء الأمور، والخاص بتغيير المناهج للصف الرابع الابتدائى كمًا وكيفًا، لصعوبة المحتوى ولكثرة المقررات التى احتشدت فى ١٣ مادة، والتى تفوق- من وجهة نظرهم- قدرة التلميذ على استيعابها، ما دفع عضوًا بمجلس النواب إلى تقديم طلب إحاطة للوزير بشأن عدم تأهيل المعلمين لتدريس تلك المناهج الجديدة، بالإضافة إلى عدم اقتناع بعضهم بالنظام الجديد ومواده.. فكيف يدرسونه للطلبة؟.. كما يجب مساءلة الوزير لإغفاله رأى أولياء الأمور وتعليقاتهم حول ذلك الحدث الجلل.
والحقيقة أن هذا الفزع البادى من ردود الأفعال يشبه هلع رواد السينما فى بداية اختراعها عند رؤيتهم فيلمًا قصيرًا للأخوين لوميير يصور قطارًا قادمًا من العمق فى مواجهاتهم ففروا فزعين مهرولين من مكان العرض خشية أن يصدمهم.
لقد تعود الطلبة وأولياء الأمور والمعلمون على آفة التلقين والحفظ والنقل التى حذر منها «د. طه حسين» فى كتابه الشهير «مستقبل الثقافة فى مصر» فى ثلاثينيات القرن الماضى، كما أدان طرق التدريس التى تستند على نقل المكتوب فى المناهج حرفيًا للطلبة، والامتحانات التى تكرس للمباشرة فى طرح الأسئلة دون الاعتماد على البحث والاستنتاج والمناقشة فى عرض الأفكار وتنوع مصادر المعرفة واستخدام قدرات الطالب المختلفة فى الوصول إلى نتائج بحثه متسلحًا بالاجتهاد والاستنباط فى طرح وجهة نظره.
أما وقد طالعت الكثير من محتويات هذه المناهج، فقد كانت مفاجأة سارة لى لم أكن أتصورها أو أتوقعها، حيث استولى علىَّ الانبهار وأحسست أن الحلم الذى كان يراودنى بشأن تغيير المناهج أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وأن طفرة مدهشة من التجديد المثمر فيما يتصل ببقية المراحل التعليمية المختلفة آتية لاريب فى ذلك، وأن تصريح الوزير بزهو وفخر بأن ذلك الإنجاز الكبير لم يحدث منذ عقود طويلة سابقة هو حقيقة لاشك فيها.
فإذا علمنا أنه لم يعد يعتمد فى خطة التطوير على الأجهزة المحلية، خاصة هيئة تطوير المناهج التى كان أقصى فهمها لهذا التطوير ينحصر فى حذف «الحشو» أو اختصار فصول من الكتب.. فاستعان بمؤسسات بحثية عالمية كبرى من الشرق والغرب تضم مئات المتخصصين فى شتى نواحى المعرفة، تكرس لفلسفة جديدة تعتمد على اختبار قدرة الطالب على التحليل والبحث والنقد ومهارات جديدة يكتسبها وشخصية إبداعية يتفرد بها، تتسم بالقدرة على حرية التعبير وإثبات الذات، وأن تكون له وجهة نظره الخاصة فيما يدرسه وتمكنه من الابتكار.. إلى جانب القضاء على آفة الدروس الخصوصية والسناتر وانتهاء دور المعلم القديم فى الشرح والتلقين والأسئلة التقليدية والامتحانات المعدة سلفًا والمتكررة بواسطة أباطرة الكتب الخارجية، ومن ثم القضاء أيضًا على آفة الغش الفردى والجماعى دون الاعتماد على الأساليب الأمنية فى القبض على الأوغاد المتهمين.
إنه فجر جديد يشرق بتعليم حضارى يتسق ودولة تهفو إلى التغيير وتحلم بالارتقاء.
Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم