عادل نعمان
ظن الكثير من المسلمين أن التصنيف الذى فرض لهم فى بداية الدعوة للفصل بينهم وبين الأديان الأخرى أنه تمييز وتفضيل على أديان الله وحق إلهى اختصهم به الخالق، من المفروض أن يقبله الغير ويستسلمون له ويعتبرونه قرارا إلهيا وجبَ الخضوع له والاستمرار عليه، مهما كانت حرارة الرفض والاستهجان من المحيطين به.. وللحق لم يكن حكما إلهيا، بل كان قرارا بشريا، شارك فيه الأوائل حتى يختلفوا ويتباينوا ويتغايروا عن غيرهم، فيعرفون بدينهم الجديد، كاللباس الجديد، والأمر أيضا لا يعدو أن يكون إنشاء فصل فى مدرسة لهذا الوافد الجديد.
ولما يفصل الأوائل بين فترة ما قبل الرسالة وما بعدها تحت اسم «الجاهلية» و«الهجرة»، لم يكن هذا الفصل عزل تاريخ عن تاريخ، أو لحاقًا فى سباق بين خير وشر، بل كانا تاريخين متصلين متعاقبين ومتواصلين، وجب أن يفصل بينهما خط وهمى، العبور بينهما لا يحتاج تصريح مرور أو تأشيرة دخول، بل كان العبور بينهما سهلا كالمرور فى البيت الواحد من غرفة لأخرى، لكنها تحمل خصوصية للساكن الجديد وإرادة الأديان فى السير مسارا منفصلا ومتجاورا ومتوازنا مع الأديان الأخرى غير متخاصمين.. هكذا كان منهجا ونموذجا خاصا لكل الأديان عند بداياتها، إثبات تاريخ وميلاد لكل مولود، وهجرة هروب واستقلال لبعضهم ليس غير، لكون هذه الأديان فى ذلك الزمان متداخلة ومتشابكة ومتساندة البناءات، وتأخذ من بعضها البعض.. وآية ذلك أن الدين الجديد قد أبقى على الكثير من العبادات والشعائر والطقوس والعادات والحدود والقيم والسلوكيات بعد الرسالة، وأنزل منها الكثير منازل الأحكام والتنزيل، وأصبح نصا يتلى فى كتاب المسلمين، ولو كان هذا التفريق مقصودا بين كفر كامل وإيمان كامل، وتاريخ منسوخ وآخر ناسخ، لتُركت هذه الفترة وما تحمله على أبواب الدين الجديد، لا يأخذ منها بل يردها ويخاصمها ويصدها عن سبيله برمتها.
وظن الورثة أن الله قد ميزهم على غيرهم لأنهم أصحاب الديانة الصحيحة، والقول الفصل فى الحياة الدنيا وفى الآخرة، ويملكون الحقيقة المطلقة التى أخفاها عن بقية خلقه، وكأن الله قد خلق الدنيا فريقين متخاصمين متقاتلين: مسلم على الحق وكافر على الباطل، حزب يدخل الجنة بغير حساب أو سابقة عقاب، وحزب إلى النار وبئس المصير مهما قدم للبشرية من منافع.. وفريق يُرفع على الأعناق ويمر مرور الكرام البررة مهما جمع من الفواحش والموبقات، وفريق تحط على رؤوسهم ذنوب وأوزار وخطايا هؤلاء المحظوظين يرفعونها عنهم يوم القيامة، أمة من أصحاب النعم وأمم من أصحاب النقم.. وهو معتقد غريب مرفوض، وليس سوى مفهوم الشراح والمفسرين، ولا يحمله الله لقومه ولعباده وخلقه فى كتابه وقرآنه.
وكون هذا الفصل وهذه الخصوصية تحولت إلى عداء بين المسلمين وغيرهم بعد الهجرة، فهذا العداء صناعة رجال السياسة والدين والأطماع والطموحات والمكاسب والأغنام والأسلاب والحكم، كل منهما وجد ضالته عند الآخر، تساندا وأعانا وأمدا وينصر وينتصر كل منهما الآخر فى السر أكثر منه فى العلن، وأصبحا وباتا فى واحد.. فإذا حاول أحد من رجال الفكر والتنوير أن ينتصر للدين ويجدد ويحدث وينقح الخطاب الدينى مثلا ويرفع عنه من الخطايا والخرافات والخزعبلات ما يتناقض مع العلم والحضارة والعقل والقيم، ويرفع عنه من المآسى التاريخية ما أساء للدين ووضع أنصاره وحلفاءه فى صفوف المرتزقة وقُطاع الطرق والمغتصبين، عندها تكون هبة رجال السياسة ونصرتهم ومهاجمتهم لهؤلاء المنصفين المصلحين أسرع من نصرة رجال الدين أنفسهم، فضلًا عن أن الانتصار والغلبة عند رجال السياسة أقسى وأغلظ وأشد من رجال الدين أصحاب الثأر والمقام والدار، بل يصل إلى المطاردات والحبس والتقييد، وهى سلطة يخولها القانون لرجال السياسة تحت عنوان «حماية السلم والأمن»، والمسميات غالبا متاحة ومسموحة.
الباب الخلفى مفتوح بين الفريقين: رجال السياسة ورجال الدين، متحابان ومتوافقان ومتصالحان، وإن كانت صور الخصام ظاهرة أمام العيان، متآلفان ومتفقان فى السر، وإن بدا الشجار وتبادل التهم بين «التكفير والخوارج» تروحان وتجيئان ولا يتقابلان ولا يتصادمان، فلا استتاب الكافر ولا عاد الخوارج.
إياكم وحسن الظن برجالات السياسة ورجال الدين، فما اجتمعا منذ قرون ليفترقا الآن، وما زرعا الأرض ظلما وجورا ليتوبا على بكاء المظلومين والأبرياء، وما أقاما الصروح والقلاع والحصون والبروج والمعاقل والسجون والفتاوى والتراثيات والحكايات والروايات ليحبسا فيها هذه الشعوب جميعها الراضية المرضية القنوعة المستكفية والمكفية، ويتنازلا عن هذا دون طلب أو رغبة أو إلحاح، بل هذان المحبسان على هوى ورغبة هذه الشعوب، المحبوسة بإرادتها ورغبتها، المعترفة بعجزها واشتهائها، المقرة بتفويضهما طوال العمر إلا من رحم ربكم.. نحن جميعا فى الحبس سواء.
(الدولة المدنية هى الحل).
نقلا عن المصرى اليوم