يوسف سيدهم
خريطة ومواسم الأمطار في بلادنا معروفة ومستقرة, والجميع يعرفون جداول النوات التي تهب علي السواحل الشمالية من البحر المتوسط.. الجميع وأعني
رجل الشارع والصيادين والعاملين في البحر مرورا بسائر الأجهزة المعنية بالحكم المحلي والمرافق والدفاع المدني ووصولا إلي إدارات المحافظات ومسئولي الطقس والأرصاد الجوية.
بالرغم من ذلك فإن الأمر الذي يستعصي علي الفهم والإدراك هو أنه في بداية كل فصل شتاء وفي المواعيد المعروفة سلفا للنوات وما يصاحبها من هطول الأمطار يتكرر ذات السيناريو الكئيب لغرق التجمعات العمرانية والمدن وعلي رأسها الإسكندرية ثاني مدن مصر وعروس البحر المتوسط.. بالرغم من توفر فسحة طويلة من الوقت يكون الطقس فيها مستقرا خلال فصول الربيع والصيف ومعظم الخريف وتسنح خلالها الفرص لإعداد وتطوير وصيانة شبكات تصريف مياه الأمطار.. وبالرغم من تكرار تصريحات المسئولين أنهم أعدوا العدة كاملة للسيطرة علي الأمور عند حدوث النوات وهطول الأمطار, وبالرغم من تحذيرات تقارير الأرصاد الجوية من توقع عواصف رعدية وأمطار غزيرة.. بالرغم من كل ذلك يتكرر سيناريو تجمعات مياه الأمطار في المحاور المرورية والشوارع بشكل مخيف يتسبب في شل الحركة وارتباك المواطنين وغرق السيارات في مياه الأمطار لما يتجاوز نصف ارتفاعها وحصار الناس المعزولة داخل مساكنها أو أولئك الذين يفشلون في الوصول إلي مساكنهم.
الصور التي شاهدناها منذ أسبوعين عن حالة المحافظات التي تعرضت للأمطار تعكس حالة كارثية وفشلا ذريعا لأجهزة الإدارة المحلية.. وأكرر أن الكارثة والفشل ليسا لأن الأجهزة بوغتت بما حدث أو لأن ما حدث غير مسبوق, إنما لأن سيناريو الطبيعة والطقس معروف, وكذلك سينايو الغرق والارتباك والعجز وتهرؤ شبكات صرف مياه الأمطار مكرر.. مكرر.. مكرر!!
نفس الأكلاشيهات الخبرية التي اعتدناها تعود لتطل علينا: موجة الطقس السيئ تضرب الإسكندرية.. نوة المكنسة تجيء مصحوبة بأمطار رعدية غزيرة.. مياه الأمطار تغمر طريق الكورنيش وتتراكم في الطرق العمودية عليه والموازية له مما يعوق حركة السيارات والمواطنين.. الأجهزة المحلية تبذل جهودا دؤوبة لكسح مياه الأمطار.. المحافظ يصدر قرارا بتعطيل العمل والدراسة حتي السيطرة علي الأوضاع!!.. إذا لا جديد في الأمر وتظل الأحوال علي ما هي عليه مضحكة.. مبكية بفضل فيديوهات وصور وتعليقات تنتشر علي وسائط التواصل وتعكس القدرة العبقرية للمصريين علي امتصاص مصائبهم والسخرية من واقعهم!!
أما الفصل الجديد الذي تزامن مع مسرحية الأمطار هذا العام والذي يقدم تناقضا صارخا مع سيناريو الفشل المعهود, فهو استقبال الإسكندرية للأمير تشارلز ولي عهد المملكة المتحدة وزوجته كاميلا باركر دوقة كورنويل أثناء زيارتهما لمصر, حيث كان من المقرر أن يزورا مركز الجيزويت الذي يقع في شارع بورسعيد.. وأنا هنا أنقل عما نشرته جريدة الأهرام بتاريخ 22 نوفمبر الماضي بقلم الزميلة الأستاذة أمل الجيار:
** الاستعدادات التي جرت لاستقبال الأمير وزوجته وسط تداعيات سقوط الأمطار كانت حديث الإسكندرية.. بدءا من تنظيف مدخل المدينة وطلاء أعمدة الإضاءة بطريق الكورنيش وصولا إلي قمة حملة النظافة وإعادة المظهر الحضاري لشارع بورسعيد والتي شملت السفلتة وطلاء الأرصفة وطرد الباعة الجائلين ورفع صناديق القمامة وإزالة الإعلانات المخالفة من علي المباني وطلاء واجهات المحلات ليبدو كل شيء نظيفا ولامعا أمام أعين الأمير!!
** قابل الشارع السكندري هذه الحملة المحمومة بالغضب بسبب نجاح وهمة المسئولين في إبراز الوجه الحضاري للمدينة في فترة وجيزة بينما بح صوت المواطنين في الشكوي والاستغاثة من تردي الأوضاع وتفشي الفوضي والإهمال دون جدوي.. فما حدث قبل زيارة الأمير يثبت أن بإمكان المسئولين تحقيق أمنيات المواطنين إذا توافرت الجدية في العمل.
** أما المؤسف وما أصاب سكان شارع بورسعيد بالخيبة والإحباط فهو أن بعد انقضاء زيارة الأمير وبمجرد مغادرة موكبه للشارع عادت الأمور إلي سابق عهدها وافترش الباعة الجائلون نهر الطريق إيذانا بعودة الإهمال والتقصير وتراجع النظافة وانسحاب الجمال!!
*** عدت إلي ملف الأمور المسكوت عنها لأتجول عبر ما كتبت في هذا الشأن خلال الأعوام الثلاثة الماضية فوجدت أنه لا جديد تحت الشمس.. فباستثناء زيارة الأمير تشارلز وزوجته هذا العام تبقي الأمطار مسرحية هزلية تعرض سيناريوهات مكررة!!