سحر الجعارة
من فترة لأخرى تظهر ادعاءات بأننا دولة لا تطبق الشريعة، وتنتفض اللحى وتبتل من البكاء على الشريعة المهدرة وحقوق الله الغائبة على الأرض.. بينما الحقيقة أننا دولة تطبق جوهر الشريعة ونفرضه على الجميع دون استثناء، وهنا لا بد أن نفرق فى البداية بين المعاملات «وهى الجزء العام المشترك بين الناس» وبين العبادات «وهى الجزء الخاص بين العبد وربه.
فى المعاملات لدينا عقوبات دنيوية بديلة للحدود الثابتة: حماية المال الخاص «حد السرقة»، صيانة الجسد «حد الزنا»، حرمة الدم «حد القتل»، حماية الخصوصية والحريات «حد القذف»، الأمن الاجتماعى «حد الحرابة».. وبينما تستند العقوبات لدينا إلى مرجعية دينية فإن كل دول العالم لديها عقوبات مماثلة لحماية الإنسان.. نحن حتى «فرض الزكاة» نطبقه على المواطن المسيحى قبل المسلم فى هيئة «ضرائب ودمغات».
أما «العبادات»، وكل ما لم ينص على عقوبة دنيوية عليه، والذى اختص رب العباد ذاته بالحساب عليه فى الآخرة مثل الصلاة والصيام وكل ما يخضع للحل والتحريم، فهو أمر خاص بين العبد وربه مكانه الضمير والوجدان وليس مسموحاً لمحاكم التفتيش بشق صدر المسلم للتيقن من حسن إيمانه، ولا يملك أى فقيه أن ينادى بتعميم التشريع عليها.. ومد الخط على استقامته حتى تصل لـ«حرية العقيدة».
فى إحدى حلقات برنامج «جدل»، التى شرفت بمحاورة المفكر الإصلاحى الباحث «إسلام بحيرى»، رويت له ما رأيته خلال زيارتى لإحدى الدول الدينية المعروفة، الكثير من المعاقين بلا أطراف، نتيجة تطبيق الحدود بعد سرقات وخلافه، ومعاناتهم.. وتساءلت: كيف يكون تارك الصلاة يستتاب ثلاثة أيام، فإن لم يعد للصلاة يُقتَل؟ كيف نتحدث اليوم عن قتل المرتد ونحن فى دولة تحمى حرية الفكر والعقيدة وممارسة الشعائر الدينية؟ بما فيها حق غير الدينيين وإن لم يجاهروا بذلك.
أجاب «بحيرى»: البعض من المفكرين يستخدم التناظر اللغوى لحل كل مشاكل النص كأنه لا يوجد واقع أو سياق، ويقول إن المعنى جرح يد السارق وليس القطع، وتأويل النص إلى غير معناه، وهذا اتجاه تنويرى مُقدر ومحترم لكن ليس اتجاهى، وهذا أحد عيوب التيار التراثى؛ تحوير الكلام.. والنفاق والبهتان فى محاولة إثبات أن هذا الحديث لا يشبه الآية القرآنية، وهذه الطريقة مضرة أكثر منها مفيدة.
واستطرد المفكر التنويرى قائلاً: الحل الأكثر واقعية هو أن نقول سياقات النص وزمنه، ونستخدم «فقه المقاصد» ومن خلاله يمكن أن نتخطى النص، وهذا لا يعيب النص فى شىء ولا يعيبنا، فنحن نؤمن بالنص إيماناً كاملاً.. موضحاً أن فقه المقاصد له أساتذته وعلماؤه الكبار، وأن آية قطع يد السارق آية حقيقية وكانت هذه هى العقوبة المتعارف عليها آنذاك فى مكة، وهذا طبيعى وقت نزول الآية، فلن تنزل بما يناسب مجتمعاً بعد ألف عام بعد أن يصبح هناك سجون.
وهذه الآيات نظمت المجتمع بقيمه الحالية وقت نزول الآيات، ثم يضع قيماً مطلقة لما بعده من مجتمعات تالية. ويتساءل أحدهم أن هناك بعض الدول الإسلامية مثل موريتانيا وباكستان بها رق، والمذهب الشافعى وأبوحنيفة قالا إن عورة الأَمَة من السرة حتى الركبة، والآن إذا قلت لواحدة هذا الكلام سيعد تحرشاً و«خدشاً للحياء العام»، فلماذا لم يعترض أحد على الفقهاء آنذاك؟
واقعياً، ما يحدث من لطم وندب على الحدود الشرعية هو خدش للقانون وتحرش بمدنية الدولة وهتك لحرمة العقل واغتصاب لحرياتنا باسم الشريعة البريئة من دموع تماسيح التكفير.
نقلا عن الوطن