مدحت بشاي
فى زمن الإجرام والعنف والجنون والغدر وميليشيات التخلف والتدين الشكلى والتراجع القيمى فى العالم للأسف، تنسحب الحكمة إلى بيتها الحزين، ويغدو صوت الحق والدعوة إلى الرشادة والتعقل والتمدين والتثقف والتغيير مثل نهيق حمار تائه فى الصحراء لا يسمعه أحد للأسف.
فى البيت والزقاق والحارة والشارع، وفى كل منتديات النخبة- حتى فى الجلسات المخملية الخاصة للناس المنشية- يحكى الجميع عن احتياجنا المُلح لاكتساب مجموعة ثقافات وقيم وسلوكيات إيجابية مغايرة فى مقابل تنحية أخرى سلبية، منها مواجهة الذات ونقد مثالبها، وثقافة المساءلة والمحاسبة، وثقافة التطوع والتبرع والوفاء والاعتذار عن الخطأ، والانتماء، وتعظيم قيم المواطنة، ورفض أخلاقيات التمييز، والعمل فى إطار الجماعة والانخراط فى العمل المجتمعى العام، ودعم العمل بإيقاع وحس وطنى بعد تفشى الإحساس بالاغتراب والفوضى والانشطار والتشرذم الإنسانى، وتغليب مفهوم الصالح العام مقابل الإفراط فى الأنانية والذاتية، ثم ثقافة احترام التبادلية مع الآخر من باب التثاقف والتفاعل والتلاقى، وأخيرًا دعم ثقافة القول والبوح الطيب والجرىء بعيدًا عن مزايدات الشعارات والتبارى فى طرح الأطر النظرية الحنجورية المتداعية.. وصدق أمير الشعراء أحمد شوقى: «إذا أصيب القوم فى أخلاقهم.. فأقم عليهم مأتمًا وعويلًا».
نعم التغيير ضرورة، وقد أكد حتمية إحداثه خروج الشعب المصرى بالملايين فى 25 يناير و30 يونيو طلبًا لمجتمع ودولة مدنية معاصرة والذهاب لعتبات الجمهورية الجديدة، وبتنا نتابع الجهود العظيمة التى تبذلها مؤسسات وأجهزة الدولة بتوجيهات رئاسية رفض عبرها الرئيس عبدالفتاح السيسى حكاية وضع الاحتفال بوضع حجر الأساس إلى مفاجآت يومية بحضور رئيس الجمهورية لافتتاح مشروع عظيم يغطى احتياجات الناس على أرض الواقع الذى عشنا مآسيه بدعوى النوم الهادئ فى دولة الاستقرار عبر العقود الأخيرة للأسف.
فى ظل كل تلك الجهود العبقرية التى نتابعها للوصول إلى دعم وعد الرئيس فى تحقيق هدف وعدنا به «مصر تانية» نسأل عن دور النخبة فى تغيير مثل تلك الثقافات السابق الحديث عنها فى بداية المقال؟!.
نعم إنه سؤال ملح، لأنه وببساطة ما جدوى دستور جديد، ووضع سياسات تنموية واقتصادية متقدمة، ونحن نعانى من خطابات دينية وأخرى ثقافية وإعلامية متخلفة تزرع فى مواطننا البسيط قناعات ومبادئ قادرة على نسف جهود كل القوى الوطنية المخلصة لرسم ملامح أركان دولة مدنية معاصرة؟
لقد صرح الراحل العظيم الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق، فى زمانه بأن نصيب المواطن المصرى فى ميزانية وزارته 16 قرشًا، والرجل لا يطرح حلولًا لدعم تلك الميزانية، لأنه يرى أن الوقت غير مناسب، والحقيقة أن من أسباب تدهور تلك الميزانية فصل قطاع الآثار عن وزارة الثقافة، فما تحققه المتاحف والمواقع الأثرية من دخل مادى كان يدعم إلى حد كبير تقديم مشاريع ثقافية، ولكننى أرى أن التمترس الغريب خلف سبل الأداء النمطى، وإدارة المنظومة الثقافية بشكل حكومى تقليدى بطىء هو السبب الرئيسى فى عدم نمو نصيب الفرد فى ميزانية وزارة الثقافة.
لقد تراجع الإعلام عن الأنشطة الثقافية الجادة والناجحة جماهيريًا، وأذكر فى هذا الإطار ما أسس له الوزير الأشهر للإعلام عبر ربع قرن على تهميش مساحات الإعلام عن الأنشطة الثقافية، وظلت برامج الإعلام الحكومية حتى تاريخه مخاصمة للأنشطة الثقافية والفنية فى قصور الثقافة والجامعات والأوبرا ومعارض الفنون وحفلات توقيع الكتب وغيرها.. ورغم نجاح تجارب تسويق وبيع الأنشطة الثقافية فى عدد من محاولات المجتمع المدنى على مستوى القطاع الخاص، وأشهرها تجربة «ساقية الصاوى»، لم يحاول مسؤول حتى فى مجال قطاع الثقافة الجماهيرية أن يستفيد من معطيات نجاح تلك التجربة ومحاكاتها!!.
نقلا عن المصرى اليوم