إعداد/ ماجد كامل 
تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يوم 10 امشير الموافق 17 فبراير بتذكر نياحة القديس ايسيذوروس الفرمي ؛ والقديس إيسذوروس الفرمي حسب السنكسار  القبطي ولد في الاسكندرية سنة 370 م من عائلة كبيرة ؛ وكان يمت بصلة قرابة للبابا ثاؤفيلس البابا رقم 23 والبابا كيرلس الكبير البابا رقم 24 .ولقد رابه والديه تربية مسيحية حقيقية وعلماه العلوم الكنسية ؛ ولما كبر تعلم اللغة اليونانية حتي اتقنها تماما وصار عالما في كل العلوم والفلسفات والتاريخ والمنطق ؛ ولكنه ترك كل ذلك وترهب في أحد الأديرة بمنطقة الفرما ( وهي ميدنة تقع شرق بورسعيد بحوالي 25 كيلو متر ) ثم انتقل بعدها  إلي منطقة البلوزيوم  ليعيش هناك حياة الوحدة والنسك  ؛ وكان منهجه الرهباني إنجيليا صرفا ؛ وأهتم ف خلوته بزينة النفس الداخلية بالفضائل ؛ واهتم في خلوته بتفسير الكتاب المقدس ؛ ففسر الكثير من  أسفار العهدين القديم والجديد ؛ كما كتب رسائل قوية لكثير من الملوك والبطاركة والأساقفة والرهبان قدرت بنحو 2000 رسالة ؛ وكانت مواهب الروح القدس تتدفق منه بغزارة . ولما وصل  إلي شيخوخة صالحة تنيح بسلام ( السنكسار القبطي تحت يوم 10 أمشير ) . 
 
وتذكر عنه المؤرخة الكنسية الشهيرة إيريس حبيب المصري (  1910- 1994 )  أنه عندما أشتدت وطأة البدعة النسطورية ؛ لم يقف مكتوف الأيدي ؛ بل قام بتوجيه رسالة إلي الإمبراطور ثيؤدوسيوس الصغير (   401- 450 م  ) يطالبه فيه  أن يتدارك الأمور ؛ ولقد ورد في الرسالة من بين ما ورد" إن كان لديك أيها الإمبراطور متسع من الوقت فأذهب بنفسك إلي أفسس لتعرف أن رجالك ملومون . إما إذا اعتمدت علي رواية من تسوقهم الأغراض أفلا يكون المجمع سخرية وهزأ ؟! أن لفي أستطاعتك أيها الإمبراطور أن تداوي هذه الأدواء إن أنت منعت رجالك المدنيين من  التدخل في شئون الكنيسة وعقائدها لأنهم بتصرفهم الخاطيء لا يعرضون الكنيسة للخطر ولكنهم يعرضون لأعظم الأخطار الامبراطورية التي يستيعينون بسطوتها – إذ  أن تصرفهم هذا سينتهي إلي استثارة الامبراطورية  علي الكنيسة ؛ ولن تستطيع الامبراطورية ( أو أي قوة عالمية ) أن تقف في وجه الكنيسة التي هي الصخرة غير المتزعزعة والتي لن تقوي عليها أبواب الجحيم ؛ وقد أثبتت الأيام هذه الحقيقة إذ قد جازت الكنيسة وسط نيران الاضطهادات وأهواء البدع وهي ثابتة راسخة " ( لمزيد  من  التفصيل راجع :- إيريس حبيب المصري :- قصة الكنيسة القبطية   ؛ الجزء الأول ؛  صفحتي 483 ؛ 484 ) .
ولقد أثمرت  تعاليمه ثمرا كبيرا إذ كان يراعي كل الوسائل المتاحة في عصره مع مراعاة مستوي كل من يتحدث معهم ؛ وفي ذلك المعني يقول " من الواجب علينا أن نستعين بالقسوة تارة   وباللين تارة لنبني المؤمنين علي  الأساس الإلهي المتين الذي لا يملك أحد ان يقيم أساسا غيره . فكما أن الطبيب الماهر  يستخدم مختلف الأدوية  تبعا لطبيعة من يبغي شفائهم فكذلك الدواء الروحي الواحد لا يصلح لمداوة الناس جميعا " ( إيريس حبيب المصري :- نفس المرجع السابق ؛ صفحتي  484 ؟ 485 ) . 
 
وتضيف الأستاذة إيريس  أن حاكم الولاية التي يقيم فيها إيسذوروس غضب  منه ؛ فأمر بنفيه . ولكن هذا النفي لم يثنه عن عزمه ولم يكن له أي أثر في نفسه الكبيرة ؛ فظل متمسكا بصراحته وجرأته حتي آخر نسمة في حياته ؛ وقد عاش خمسة وسبعين عاما علي هذه الأرض حتي  أنتقل إلي عالم النور سنة  445م بعد أن جاهد الجهاد الحسن وأكمل السعي  فذهب لينال أكليل البر  المعد له من رب المجد " ( نفس المرجع السابق :- صفحة 485 ) . 
ولقد خصه العالم الكبير جوهانس كواستن (  1900- 1987  ) بدراسة مطولة في كتابه العمدة " علم الآبائيات" الجزء الثالث ؛ حيث قال عنه من ضمن ما قال " ولد في الإسكندرية وتنيح حوالي 435م  .... ويعتبر القديس ساويرس الأنطاكي أقدم مصدر معلومات عنه ؛ ويؤكد كواستن أن إيسيذوروس كان كاهنا في الفرما ؛ معروفا بتقواه ومعرفته بالكتاب المقدس ؛ وتشهد رسائله أنه قاد حياة رهبانية كبيرةلا  وتمتع بصيت عظيم بين النساك حتي يمكن أن يطلق عليه لقب " أب رهبان " ولقد أعتبره فوتيوس من بين كبار الرواد في فن كتابة الرسائل مع كل من ( القديس باسيليوس الكبير – القديس غريغوريوس النزينزي ) . ويؤكد كواستن أن أسلوب إيسذوروس في كتابة الرسائل تكشف عن شخصة ذات تعليم كبير وتدريب لاهوتي عالي ؛ مصدره الرئيسي هو الكتاب المقدس ؛ ولكنه يعرف أيضا الكتاب المسيحيون الأوائل ؛فبعض من رسائله مأخوذة بالحرف من كتابات القديس كليمندس السكندري ؛ ويؤمن إيسيذوروس أن العلوم الدنيوية ممكن أن تكون مفيدة إذا تمجدت بالحق الإلهي ؛ والمسيحي يجب أن يستخلص غذاءه مثل النحلة حتي من كتابات الفلاسفة الوثنيين ؛ وكان ( ديموستين – أفلاطون –  أرسطو- هوميروس ) هم الكتاب المفضلين عنده ؛وكانت اقتباساته من يعضهم كثيرة جدا .وتغطي رسائله فترة تقارب أربعة عقود ؛ تشمل الفترة من ( 393- 433م ) وتشمل تنوعا كبيرا ؛ ولقد نشرت الطبعة الأولي منها في باريس عام 1638 م ؛ وأعاد ميني طبعها في (M G 78 ) وهي تتضمن حسب إحصاء ميني 2012 رسالة في خمسة كتب  .... أما عن مضمون هذه الرسائل ؛فهي تهتم بالموضوعات اللاهوتية مع بعض الموضوعات العامة ؛ وهي القضايا  التي أرسلت إلي سلطات الدولة لكي يتشفع لأجل مدينة الفرما ؛كما توجد رسالة موجهة  إلي والي مصر ؛ يوبخه فيها  علي إستعماله العنف ؛ ورسالة أخري موجهة إلي الإمبراطور " ثيؤدوسيوس الثاني " يطالبه فيها ان يكون لطيفا  وكريما لأن تلك هي الفضائل النبيلة للحاكم . ومعظم هذه الرسائل تعالج موضوعات تفسيرية ؛  ويتبني الكاتب المنهج التاريخي والنحوي الخاص بمدرسة أنطاكية ؛ويرفض الرمزية الاستعارية ؛ فهو ينتقد محاولة وجود رموز للسيد المسيح في كل مكان في العهد القديم ؛ لأن هذا سوف يشجع الهراطقة والوثنينن للطعن في الفقرات الحقيقة الخاصة بالسيد المسيح .ولكنه يرحب بالتفاسير  الرمزية التي تخدم فقط حصول النفس علي الاستنارة . ومن بين الرسائل التفسيرية ؛ توجد ستين رسالة مخصصة لرسائل القديس بولس الرسول .كما توجد بعض الرسائل التي تتناول مواضيع أخلاقية ونسكية ؛ وفي الرسائل اللاهوتية ؛ ركز علي لاهوت السيد المسيح ؛ وعلي طبيعة السيد المسيح . كما توجد بعض الرسائل المفقودة ؛ منها رسالة "  إلي اليونانيين " ورسالة أخري بعنوان " لا وجود للقضاء والقدر " ( لمزيد من الشرح والتفصيل راجع :- جوهانس كواستن :- علم الآبائيات "باترولوجي " المجلد الثالث ؛ الصفحات من  231- 238 ) .
 
كما تناول الدكتور وهيب قزمان دراسة أعماله ؛ ولقد كتب عنه القديس ساويرس الأنطاكي فقال أنه كتب  أكثر من 2000 رسالة ؛ شملت كل نواحي الإرشاد والتوجيه ؛ ولقد قام بجمع هذه الرسائل رهبان دير " الأكوميت " بالقسطنطينية في 4 مجلدات كل مجلد يحتوي علي 500 رسالة . وقد نشرت قي باريس عام 1638 في مجموعة  الآباء "ميني " Patroogia Mighn  المجلد رقم 76 . كما نشرت مجموعة مجموعة  من هذه الرسائل تحوي نحو 1012 رسالة في 5 كتب كما يذكر تيلمونت . ( وهيب قزمان :- القديس إيسيذوروس الفرمي ؛ الجزء 1 و2 ؛ فريق اللاهوت الدفاعي " .
ثم يضيف الدكتور وهيب أن كل الصفات المميزة لهذه الرسائل تؤكد  أنه مفسر بالدرجة الأولي . ويقترب أسلوبه كثيرا من أسلوب مدرسة انطاكية ؛ إذ كان يوقر القديس يوحنا ذهبي الفم كثيرا . كما حث البابا كيرلس الكبير علي رفع الحرم عنه حتي أستجاب له بالفعل . 
 
وسوف نحاول عرض بعض نماذج من فكره وكتاباته ؛ فمثلا في الغيرة الحسنة كتب يقول " يجب علينا أن تحتمل الإهانة بصبر  ودعة إذا لحقت بأشخاصنا ؛ وأما حينما تلحق الإهانة بالعزة الإلهية ؛ فحينئذ يجب أن تأخذنا الغيرة المقدسة ؛ فلا نقبل ذلك بجبن ونخشي غضب الآخرين . ولكننا عادة ما نتقد غضبا ونشتعل بنار الغيرة ضد أعدائنا فيما يصادفنا شخصيا . أما فيما يختص الله وكنيسته ؛ فلا سكوت ولا هوادة "(  وهيب قزمان :- نفس المرجع السابق )  . 
 
2-وعن الحض علي ضرورة عمل الخير كتب يقول "إن كان السؤ يصيب يصيب من يقوم بالتزاماته خير قيام ؛ وتنزل به الاضطهادات ؛ في حين ان من يصنع الشر يمدح ويكافيء ؛ فعلي الإنسان أن يختار عمل الخير ؛ لأنه حتي إن لم ننظر المكافأة السماوية المعدة للصالحين والعقاب الأبدي للأشرار ؛ فالفضيلة وحدها هي  أكليل ومكافأة البار .... فالفضيلة دائما محبوبة حتي إن إضطهدت باطلا ؛ بينما الرذيلة مكروهة دائما مهما أمتدحها الضالون ! " .
3-وعن عظمة وأهمية الكتاب المقدس كتب يقول " عندما يتكلم الله أو يعد بشيء فإن كل الأفكار والاحتمالات البشرية ؛ لأن كل هذه الأمور هي لا شيء أمام الله شخص الله المتكلم .
 
4-وحول سمات الشخص الذي يتصدي لتفسير الكتاب المقدس كتب يقول "لما كان الكتاب المقدس اعلي سلطان إلهي فإنه يلزم أن يكون مفسره مؤهلا لهذا العمل العظيم ؛ وعليه أن يكون تقيا نقي الفكر بليغ اللسان ؛ توطدت  بينه وبين الكتاب المقدس علاقات خاصة ؛ تجعله يدرك جيدا  أنه ليس من السهل فهم ما تحويه نصوص الكتاب المقدس من أسرار دفينة ؛ لذا يجب علي المفسر أن يبدأ دائما بالصلاة ؛ وأن يعيش حياة الجهاد الروحي في صبر ..... وعلي المفسرين ان يشرحوا الكتاب المقدس بطريقة علمية ومنهجية وأن يستخلصوا  ما فيه من قوة ؛ ولا يليق بالأيدي الغير مستحقة أن تلمس أسراره التي لا يمكن فحصها .( وهيب قزمان :- نفس المرجع السابق ) .
ونصل  أخيرا إلي  نظريته في خلاص الإنسان ؛ فهو يؤكد أنه تم خلاصنا بالمسيح الذي تجسد لأجل خلاصنا ؛ لكن  هل الخلاص مقدم للجميع ؟ يجيب القديس بنعم ولا :- نعم لأن البشرية كلها مدعوة للخلاص ؛ ولا ؛ لأان ليس الجميع يطيعون المسيح ويقبلون الخلاص  . والخلاص عند إيسذوروس الفرمي ثلاث وسائل هي :- 
 
1-الإيمان بالدرجة الأولي . 
2-الأعمال الصالحة .
3-النعمة الإلهية :- ولا تساعد النعمة الإلهية إلا الذين يرغبون في الخلاص ؛ ويعملون جاهدين لأجل نواله . ( وهيب قزمان :- نفس المرجع السابق ) .
 
ومن الرسائل العلمية الهامة التي قدمت عن القديس ؛ رسالة بعنوان " القديس إيسذوروس الفرمي وآثاره في منطقة بيلوزيوم " للباحث بيشوي فخري اسطفانوس " وهي اساسا رسالة ماجستير مقدمة   إلي معهد الدرسات القبطية بجامعة الإسكندرية ؛ ومن خلال مستخلص الرسالة Abstract    يتعرض الباحث في رسالته لأحوال مصر قبل عصر القديس ؛ وما ترتب علي حالة الهدوء والسلام الذي خيم علي البلاد ؛ وأوضحت الدراسة ان الرهبان ليسوا جماعة هاربة من الاستشهاد والاضطهاد كما يقول البعض ؛ بل هم جماعة من العباد وجدوا في الرهبنة التعويض المثالي . ويذكر بيشوي في رسالته  أن إيسذوروس كان شابا سكندريا تربي في مدارس الحكمة  ؛ وعندما ترهب لم يكن منفصلا عن المجتمع الذي يعيش فيه ؛بل كان له علاقات قوية مع اشهر رجال عصره ؛ وكان له تاثير فكري عليهم  ظهر  من خلال رسائله . كما أستعرضت الدراسة تاريخ مدينة بليلوزيوم من النشاة إلي الأنهيار ؛ وما مر عليها من أحداث تاريخية  لها تأثيرها المباشر علي مصر في عصور مختلفة ؛ كما رصدت الدراسة العناصر المعمارية والأثرية  للآثار القبطية في مدينة الفرما . ولقد  ختم الباحث رسالته بمجموعة من التوصيات الهامة نذكر منها :- 
 
1-بحث كيفية تدخل الأباطرة في سياسة الكنيسة ؛ ومدي تأثير عقيدة الإمبراطور علي الصراعات الفكرية وقرارات المجامع المسكونية ؛ ومدي تجاوب الآباء البطاركة والرهبان مع ميول الإمبراطور . 
 
2-توصي الدراسة بدراسة الأدب الرهباني وترجمة كتابات الآباء بطريقة علمية سليمة ؛ مع رصد مدي تاثر  الفلسفات اليونانية علي طريقة صياغة العقيدة المسيحية ؛ واستخدام المصطحات الفلسفية في النصوص الدينية بعد  إعادة صياغتها  بمفهوم مسيحي لاهوتي .
 
3-دراسة الدور الاجتماعي للرهبان ومدي تأثيرهم في المجتمع . 
 
4-اهتمام وزارة التربية والتعليم بوضع نماذج رهبانية في مناهجها كأمثلة للورع والتقوي . 
 
5-محاولة بناء الكنائس الحديثة علي غرار الطرز القديمة  لكنائس الفرما .
 
6-الاهتمام بالآثار القبطية سياحيا ؛ والمحافظة علي أطلالها من عوامل البيئة التي تهددها بالخطر . 
 
( وبالطبع لن يقتني أن اقدم خالص الشكر للأخ الحبيب يوحنا رضا  متي  أمين مكتبة معهد الدراسات القبطية لتفضله بتصوير الملخص وإرساله لي علي الواتس ؛ فله مني جزيل الشكر ) .
بعض مراجع ومصادر المقالة :- 
1-السنكسار القبطي تحت يوم 10 أمشير . 
2-القس منسي يوحنا :- تاريخ الكنيسة القبطية ؛ الطبعة الثالثة ؛ 1982 ؛ الصفحات من 303- 306 .
3-إيريس حبيب المصري :- قصة الكنيسة القبطية ؛ الجزء الأول ؛  الصفحات من 482 – 485 .
4-جوهانس كواستن :-  علم الآبائيات "باترولوجي " دراسات عن آباء الكنيسة في العصور الأولي ؛  المجلد الثالث ؛ ترجمة الراهب غريغوريوس البراموسي ؛دكتور نادر مدحت لبيب ؛مركز باناريون للتراث الآبائي ؛ الطبعة الأولي أكتوبر 2021 ؛  الصفحات من 231- 238 .
5-وهيب قزمان :- القديس إيسيذوروس الفرمي ؛ الجزء 1 و2 ؛ فريق اللاهوت الدفاعي ؛ موقع علي الفيس بوك .
5-بيشوي فخري اسطفانوس :- القديس ايسيذوروس الفرمي وآثاره في منطقة بيليوزيوم ؛ رسالة ماجستير  غير منشورة مقدمة إلي معهد الدرسات القبطية  بجامعة الإسكندرية عام 2021 .