«بس إيه هي السعادة؟.. ولا إيه معنى السعادة؟»، سؤالين من الصعب أن يتخذ إنسانًا منهما منهاجًا ومسلكًا يضعهما نصب عينيه ويسعى خلفهما طوال حياته في محاولة منه لاستكشاف مصدر السعادة ومعناها، ورغم إخفاقاته وأحزانه، تستمر محاولاته واحدة تلو الأخرى دون كلل، لا لشيء سوى لتقديمها إلى الآخرين متى أرادوها، أينما تواجدوا، لذلك كانت نيته الطيبة سبيلاً لاختراق قلوب وعقول أجيال متتابعة لأعوام وعقود قد لا تنتهي، وكما كان قلبه هو مصدر عطاء السعادة في حياته لمحبيه ولمن حوله، كان أيضاً مصدر ضعفه وسبب هوان جسده وفراقه لدنيا الأحزان، تلك هي ببساطة قصة حياة «الباحث عن السعادة» إسماعيل ياسين، الذي يوافق 15 سبتمبر الذكرى المائة لمولده.
قد تكون وفاة والدة اسماعيل ياسين في طفولته سبباً رئيسياً ليبدأ رحلته في البحث عن السعادة التي لم يشعر بها في حضن زوجة أبيه، ليأتي فشل مدرسته الإبتدائية التي تركها في الصف الرابع ليستكمل سلسلة حرمانه، مما يلاقيه من خشونة معاملة زوجة أبيه له، لينمو طفلا مفتقدًا للسعادة، ثم شاباً باحثاً عنها، ثم رجلاً معطاًء لها بغير حساب.
أوهمته عقليته الصغيرة أن يترك دراسته بحثًا عن عمل هرباً من معاملة زوجة أبيه السيئة بعد الزج بوالده في السجن نتيجة تعثرات مادية في محل الصاغة الذي كان يملكه، فعمل منادياً لمحل أقمشة ثم منادياً مرة أخرى بأحد مواقف السويس، إلا أنه لم يجد ضالته في مهنة المناداة فقرر التوجه إلى القاهرة بحثاً عن فرصة أفضل. وفي شارع محمد علي قرر الاستقرار بعد أن وجد عملاً في أحد مقاهي شارع الموسيقى، ثم وكيلاً لأحد المحامين.
ويبدو أن مهنة المنادة التي امتهنها بعد هروبه من منزل والده قد أوحت إلى إسماعيل ياسين بعذوبة صوته، فأخذ يحلم بمنافسة الموسيقار محمد عبدالوهاب الذي يعشق كل أغنياته، وحاول مراراً إقناع رواد المقهى الذي يعمل به بإجادته الغناء، إلى أن وجد ضالته في أبو السعود الإبياري الذي اقتنع بموهبته بعد أن تعرف إليه وألحقه بالعمل في فرقة بديعة مصابني عام 1935 وهو ابن 23 عاماً ليقدم فقرة ثابتة يغني من خلالها عدد من المونولوجات التي كتبها له مكتشفه ورفيق رحلة كفاحه فيما بعد أبو السعود الإبياري.
ناقش إسماعيل ياسين من خلال المونولوج عدداً من المشاكل والأفكار المختلفة، وقدمها بطريقة مبتكرة مستخدماً بعض اللازمات التي ارتبطت به فيما بعد وحتى الآن، مثل استخدام فمه الذي اشتهر به في الوسط الفني وبين الجمهور، إلى أن ذاع صيته وأصبح مطلوباً في عدد من الملاهي الليلية، حتى أن الإذاعة طلبت منه تقديم مونولوج ثابت إعلانًا منها في ذلك الوقت عن ظهور نجم جديد ستتخاطفه شركات الإنتاج وكبار النجوم فيما بعد.
ذاع صيت إسماعيل ياسين في فن إلقاء المونولوج، فتشجع كاتب السيناريو فؤاد الجزايرلي عام 1939 في إسناد عدد من الأدوار السينمائية له منها أفلام «خلف الحبايب»، «علي بابا والأربعين حرامي»، «نور الدين والبحارة الثلاثة»، «القلب له واحد»، ونجح «إسماعيل» فيما أسند إليه فذاع صيته مرة أخرى واذدادت شهرته.
هناك مقولة صينية تقول: «القدر يحمل لمن يعانون في طفولتهم الخير إلا أنه لا يستطيع إبعاد المعاناة عنهم»، وقد وهب القدر مفاتيح أبواب الشهرة إلى إسماعيل ياسين بعد سنوات ثلاث من منتصف عمره، وكأن القدر يعلن له أن نصف المشوار انتهى وعلى صاحب المفاتيح أن يشعر بلحظات سعادة ما تبقى له من عمر. وفي عام 1945 قرر المنتج والمخرج الجريء أنور وجدي الاستعانة بـ«إسماعيل» في عدد من أفلامه، وفي خطوة أجرأ قرر «أنور» إسناد البطولة المطلقة له في فيلم «الناصح» قبل أن يتم عامه السابع والثلاثين، لتبدأ أسطورة إسماعيل ياسين الفنية الحقيقية في شق صفحاتها في كتب وموسوعات تاريخ الفن المصري والعربي، ليسطر بموهبته فقط نجاحه الذي لم يكن مخططاً له.
ومع اتمامه الأربعين من عمره عام 1952، أصبح إسماعيل ياسين نجم الشباك الأول بلغة إيرادات السينما في ذلك الوقت، وتهافتت عليه شركات الإنتاج والمنتجون المستقلون أملاً في الحصول على توقيعه على عقودها، ولم يبخل إسماعيل ياسين على أحد بفنه مثلما يحدث حالياً من قبل بعض الفنانين، بل لم يشترط في يوم ما أجراً معيناً، فقط كان يطلب المتعارف عليه في السوق، فقدم خلال ثلاث سنوات فقط 48 فيلماً من أنجح أفلامه، وهو رقم يتطلب من أي فنان في 2012 أكثر من 40 عاماً تقريباً ليصل إلى أقرب رقم له، لتبدأ بعدها سنوات المعاناة مجدداً بعد أن أبى القدر إبعاده عنها.
ويبدو أن إسماعيل ياسين قرر بنفسه أن يعيد إلى القدر مفاتيح النجاح والشهرة التي وهبها له من قبل. فقرر اقتحام عالم المسرح بتكوينه لفرقة مسرحية مع رفيق دربه أبو السعود الإبياري، ونجح الثنائي في تقديم أكثر من 60 رواية مسرحية خلال 12 عاماً فقط بواقع خمس روايات كل عام، وهو يظهر الفارق مرة أخرى بين الروايات الساذجة التي تقدم لخمس أو ثمان سنوات في عصرنا، قبل أن يموت المسرح في مصر منذ سنوات، وبين تقديم خمس روايات في العام، كما كان يفعل إسماعيل والإبياري. ورغم نجاحه في إعادة تشكيل أفكار المسرح المصري وتغيير نمطه، إلا أن النجاح لم يكن حليفاً له في نهاية مشواره الفني خاصة مع بداية الستينيات عندما انحصرت عنه أضواء السينما لارتباط برواياته المسرحية، وما لبث أن حل فرقته المسرحية عام 1966 بعد وقوعه ضحية للديون، لينتهي مثلما بدأ تمامًا، وحيداً يبحث عن السعادة ولا يجدها، رغم تقديمها لمن حوله ولمن لا يعرفهم خلال 27 عاماً هي تاريخ عمله في الفن.. إلى أن توفى في 24 مايو 1972.