محمود العلايلي
على الرغم من أن عصر النهضة كان عبارة عن حركة ثقافية فى أوروبا امتدت من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر، فإن الكثيرين اقتصر لديهم مفهوم التنوير على مفهوم الإصلاح الدينى، بينما يُعد الإصلاح الدينى جزءًا من حركة التنوير والنهضة فى النصف الأول من القرن السادس عشر، والحقيقة أن هذا الأمر لا يمكننا المرور عليه دون التوقف بتأنٍّ؛ لأن البعض تصور أن التنويريين دورهم الأول، بل الوحيد، هو دفع الدين جانبا أو على الأقل تطويع دوره إلى حد كبير.
وكأن ذلك إن حدث سيؤدى إلى التقدم العلمى والإصلاح السياسى والدفعة الاقتصادية وتطوير التعليم والنهوض بالخدمات الصحية، والحقيقة الثانية أن هذا غير صحيح على الإطلاق ولنا فى التجربة الشيوعية التى استمرت حوالى ستين عاما مثل مهم، حيث تم إلغاء الدين من تلك المجتمعات ولكن لم يؤد ذلك إلى تقدم سياسى أو اقتصادى أو تعليمى، على الرغم من التقدم العلمى فى بعض المجالات المرتبطة بعلوم الفضاء والعلوم العسكرية، مما يقودنا إلى حقيقة ثالثة وهى أن التقدم لا يقتصر على الإصلاح الدينى الذى يمكن أن يكون إما عاملا من عوامل التنوير أو نتيجة لاستنارة المجتمع وتقدمه.
وأما عن الثنائية المفتعلة من تناقض العلم والدين، فإن البعض يصر على إقحام علوم التاريخ والعلوم الطبيعية على الدين، سواء لتثبيت الأفكار الدينية على جانب أو لمهاجمتها على الجانب الآخر، بينما نجد الدين يتدخل فى علوم الطب والاجتماع والاقتصاد فى كثير الأحيان، وهو ما يجعل من العلم حكما على الدين بمعيار خاطئ لأن المسائل الغيبية لا يجب أن تقيّم بالمعايير المنطقية.
بينما لا يمكن للمعايير الإيمانية أن تحكم على صحة العلوم البيولوجية والطبيعية والاجتماعية، والواقع أن الكثيرين على الجانبين قد استمرأوا النقاش فى الحلقات المفرغة، مثل مسألة الأحاديث النبوية التى تناهز السبعة آلاف، أو الصحاح منها إن كانت ألفين وستمائة، أو كانت مائة حديث صحيح فقط، وإن كانت تلك الأحاديث تمثل ثلاثة أرباع الدين أو الدين كله، ليستمر النقاش إلى ما لا نهاية، بينما الأوقع أن نقرر بشكل حاسم حدود استخدام الأحاديث فى الحياه العامة أو الأمور العلمية والمشكلات الاجتماعية بدلا من إهدار الوقت والمجهود بإثبات قد لا يفيد أو إنكار قد لا ينفع.
ويحاول التنويريون تجديد أفكار المجتمع عن طريق الكتابة أو الإعلام المرئى والمسموع ومنصات التواصل الاجتماعى والأطروحات الفكرية والفلسفية، بالإضافة إلى الإسهامات الفنية بكل أشكالها، وهى إسهامات وإن كانت غاية فى الأهمية، فإنى أظن أنها تدل على التأكيد أن السعى للتنوير والتقدم موجود أكثر من قدرتها على التأثير وإحداث تغيير محسوس.
حيث يحتاج التغيير المجتمعى إلى دفعة من إرادة سياسية أكثر من التأميل فى حركة فكرية، لأن الإرادة السياسية لها ما يؤهلها لإحداث هذا التغيير من لوجستيات وإمكانات لا تتوافر إلا للدولة، بينما يكون دور التنويريين من الفلاسفة والكتاب والفنانين هو التأسيس لهذا التوجه، ثم تمريره للمواطنين على أجنحة رياح التغيير التى تخطط لها الدولة وتطلقها، لأن العمل التنويرى وحده كالتبشير فى الجمع، حيث تخاطب نفس المتلقى لتنال نفس رد الفعل، بينما العمل الحكومى بمفرده كالإعلام الموجه لا يصدقه من أطلقه ولا يؤمن به من تلقاه.
ويتبقى فى ذلك نقطة أخيرة؛ أنه على الدولة أن تعى أن التنوير لا يعنى تبديل رجال دين الجماعات السياسية برجال دين المؤسسات الحكومية فى التأثير والتوجيه، حيث يرتكن الطرفان لنفس المرجعيات، وإنما يختلف المنطوق بحيثيات مغايرة وبراهين مختلفة بحسب الغاية السياسية، وهو ما لا يمكن ضمانه طوال الوقت، لأن أهداف الدولة الاستراتيجية قد تتناقض يوما ما مع تطلعات المؤسسات الدينية فى الرسوخ والانتشار والتأثير.
نقلا عن المصري اليوم