أنا الباشا.. الأستاذ الدكتور أحمد شفيق، وُلدت ١٩٣٣م، وغادرت هذا العالم ٢٠٠٧ بعد أن ملأته نورًا وعلمًا. كنت الأول فى الثانوية العامة على القطرين «مصر والسودان»، كما كنت الأول على دفعتى عند التخرج فى كلية الطب، كنت لا أحب كلمة طبيب، وكنت أفضل عليها «حكيم» لأن الطب وحدات معرفية، أما الحكمة فهى إقامة بناء جميل من هذه المعارف.
 
تعلمت الجراحة على أيدى عبدالوهاب مورو باشا، عبدالله الكاتب باشا، إسماعيل بك محرز، نجيب باشا محفوظ.. هؤلاء الأعلام عالميًّا. أكرمنى الله بزوجة فاضلة، أ. د. ألفت السباعى، عشقت الجراحة من قريبها، أ. د. إسماعيل السباعى، ومنّى حين كانت طالبة عندى فى السنة الرابعة، فالتقت أفكارنا واهتماماتنا، وكان من ثمار هذا اللقاء أ. د. على أحمد شفيق، أ. د. إسماعيل أحمد شفيق، تيمنًا باسم إسماعيل بك محرز.
 
العبقرية هى ٩٩ بالمائة «عرق»، وواحد بالمائة «إلهام».. إسحق نيوتن، ابن سينا، ابن الهيثم، نيل بور أو بوهر «تركيب الذرة»، كانوا يعملون ١٨ ساعة فى اليوم، وأنا كذلك، يومى يبدأ الثالثة صباحًا فى المعمل، والتجارب على الحيوان حتى التاسعة صباحًا، وبعدها فى قصر العينى، ثم العيادة، ثم النوم ثلاث ساعات فقط.
 
وكانت ثمار هذا الجهد رائعة، أصبح اسمى فى أعظم وأكبر كتاب عالمى للتشريح Gray’s لأنى وضعت خريطة جديدة لعضلات الشرج، لا يوجد كتاب فى العالم عن جراحة القولون والشرج إلا وتجدون اسمى فيه، أنا مكتشف اختناق العصب الحوضى فى قناة Alcock’s وطريقة تسليكه لفك هذا الاختناق، لى أكثر من ألف بحث فى المجلات العالمية، وعشرات العمليات الجديدة باسمى، لذا لا تعجبوا أنى أجريت عمليات لرؤساء الدول والأعلام، منهم فيدل كاسترو «كوبا»، موبوتو «أوغندا»، ابن أخ الرئيس بوش، سفيرة إنجلترا فى إيطاليا جاءت إلى مصر حتى أجرى لها عملية دقيقة، فأنا صاحب علم جديد وضعت اسمًا له: Perinulogy، وعند رحيلها قالت: أتمنى أن تكون مستشفياتكم مثل مستواكم العالمى، قلت لها: المهم الجراح قبل المبنى.
 
هناك كثيرون لا أستطيع أن أفصح عنهم لخطورة أمراضهم ومناصبهم، خصوصًا أن الإعلام لم يذكرهم كما أعلن عمن تحدثت عنهم. أنا من مواليد المنوفية، المحافظة التى نسبة التعليم فيها مائة بالمائة، كنت أحب الوحدة وأذاكر فى الحقول، اختزنت حكمة وصبر سبعة آلاف سنة من حضارة أجدادى العظماء، كما تعلمت منهم الحب والعطاء، طالما وقفت فى المحاكم أدافع عن أبنائى الأطباء، وكنت أقول للقضاة: الطبيب قد يصيب وقد يخطئ، ولكن يكفيه شرفًا وفخرًا أنه يصارع الموت من أجل الإبقاء على الحياة. رُشحت لجائزة نوبل ١٩٨١ ولكن الظروف السياسية العالمية حالت بينى وبينها فلم أنَلْها. أنا لم أمت، فالناس صنفان: موتى فى حياتهم/ وآخرون ببطن الأرض أحياء.. أنا حىٌّ بما تركته للبشرية من علوم.
 
أنا حى بابنىَّ على وإسماعيل.. على يرانى فى غرفة العمليات ويطلق علىَّ الأب والمعلم، وإسماعيل يرانى عالمًا تحويليًا «غيّرت مسار العلم» ويطلق علىَّ: فارس غرفة العمليات. الحياة تتجدد ولا تجمد، الحياة تخلد فى الأبناء ولا تخلد فى الآباء. حاربونى وهاجمونى وأوقفونى عن العمل مرتين لأنى كنت آتى بالجديد، وحقًا قال أبوالعلاء: بنو الفضل فى أوطانهم غرباء/ تشذ وتنأى عنهم القرباء!
 
ولكن السادات كرّمنى بجائزة الدولة التقديرية. أما تعارفى بكاتب هذه السطور، فقد كان فى المؤتمرات، اشتركنا سويًّا فى مؤتمر عن البروستاتا، وامتدحت عمليته الجديدة Capsulotom، وجرب طريقتى الجديدة فى تخفيف آلام سرطان المثانة بالميثوتراكسات، وكانت النتائج مذهلة، قلت: «وشهد شاهد من أهلها».
 
طالما سهرنا فى منزله أو منزلى، كان دكتور ألبير يعزف على البيانو، كان من الحضور فرج فودة وحسين بيكار، وكانت احتفالات شم النسيم عندى، كنا نطرق أى موضوع بحرية فكرية، وفى يوم احتاجت سيدة أن أحل لها مشكلة بواسطة وزير الداخلية، وقد تم حلها فى ظرف يوم، أرسلت هذه السيدة لوحة كبيرة إلى عيادتى تقول:
 
«اسمك نداء النجدة للمكروبين، وقلبك مرفأ الراحة للمتعبين».
 
زارنى صاحب هذه المقالة فى مثواى الأخير، سالت دموعه وقال:
 
ما كنت أعلم وأنت تودَع فى الثرى.. أن الثرى فيه الكواكب تودَع
 
ما ضيّع الباكى عليك دموعه.. إن الدموع على سواك تضيع.
نقلا عن المصري اليوم