كتب: هاني لبيب
تابعت بدقة حادث طعن وقتل القمص أرسانيوس وديد «كاهن كنيسة السيدة العذراء والقديس بولس» بمحافظة الإسكندرية، خلال الأسبوع الماضى، بسلاح أبيض فى رقبته، حيث تم نقله سريعًا لأحد المستشفيات، ولكنه توفى بعد أن باءت جميع محاولات إنقاذه بالفشل.

وكالعادة.. تحول الحادث الإجرامى البشع إلى ترند فى دولة الفيسبوك الوهمية، وتحولت التعليقات «البوستات» من مجرد اجتهادات عشوائية إلى تحقيقات وأحكام قضائية افتراضية لا تمت للمعلومات الدقيقة أو لما حدث فعليًا من قريب أو بعيد. واستغل أحدهم حالة الحزن للترويج لفكرة كون المتهم مجنونًا للمزيد من تأجيج حالة الغضب.

بعيدًا عن القفز على أى استنتاجات أو اجتهادات افتراضية غير واقعية، أسجل هنا بعض الملاحظات والأفكار عن ما حدث وحوله. أولًا: أود التأكيد على رفضى التام لفكرة روج لها البعض على مواقع التواصل الاجتماعى بتعميم قتل القمص أرسانيوس وديد بربطه بحادثة قتل شيخ بسبب تدخله للحكم والفصل فى نزاع بين طرفين.. لأن التعميم فى التعامل مع مثل تلك القضايا يضر أكثر مما ينفع لانعدام المقارنة وأسباب القتل من جهة، ولكون القتل هنا مرتبط بالهوية الدينية من جهة أخرى. والدين هو من الأدوات الأشد تفجيرًا فى الانقسامات المجتمعية والحروب الطائفية.

ثانيًا: تتخذ أدبيات جماعات الإسلام السياسى (تراثها وتاريخها ووثائقها وتصريحاتها) فى مجملها بداية من جماعة الإخوان المسلمين، ومرورًا بالتيارات السلفية المتعددة، وصولًا للذئاب المنفردة والجماعات الأصولية والإرهابية موقفًا عدائيًا معلنًا من المواطنين المسيحيين المصريين باعتبارهم من الكفار.. مما يستوجب استحلال دمائهم وممتلكاتهم. وهى أفكار لها وجود عند العديد فى الشارع المصرى.

ثالثًا: يدفع المواطنون المسيحيون المصريون «فاتورة» الإرهاب والتطرف والتعصب والتشدد.. باعتبارهم الحلقة الأضعف التى يتم التركيز عليها والاهتمام بما يحدث لها محليًا وعالميًا. ولن تنسى جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية والتيارات الأصولية المتطرفة للمواطنين المسيحيين المصريين انحيازهم للدولة الوطنية المصرية ورفضهم للفاشية الدينية. وهو الأمر الذى يتعاملوا معه باعتباره ثأرًا شخصيًا معهم.

رابعًا: يتم استغلال مثل تلك الحوادث بتصدير فكرة فشل الدولة المصرية فى حمايتهم من جانب، والتشكيك فى تحقيق مجتمع العدل والمساواة والحصول على حقوق متساوية من جانب آخر. وما يتم الترويج له بالإيحاء بأن المواطنين المسيحيين المصريين غير آمنين على حياتهم وممتلكاتهم. والإيحاء بفشل الأجهزة الأمنية فى حمايتهم والتصدى لأى اعتداء يقع عليهم.. وتناول بعض المصطلحات الموجهة على غرار الحماية الدولية للمسيحيين فى مصر.

خامسًا: شهدت السنوات التى تلت ثورة 30 يونيو العظيمة تراجع أعمال العنف المسلح لجماعات الإسلام السياسى الإرهابية بسبب صعوبة التنفيذ العملى لمخططاتهم الدنيئة سواء بسبب نجاح الإجهزة الأمنية المصرية فى الملاحقة الأمنية للعناصر الإرهابية من جهة، أو بسبب النجاح فى تجفيف منابع الدعم والتمويل من جهة أخرى. فضلًا عن اتخاذ إجراءات استباقية من خلال استراتيجيات وقائية لوأد عملياتهم فى مهدها قبل تنفيذها.

سادسًا: أود أن أذكر هنا بملاحظة تبدو ساذجة، وهى محاولات الجماعات الإرهابية «الشوشرة» على فضائحهم الموثقة بالصوت والصورة فى دراما رمضان 2022، خاصة مسلسلى «الاختيار» و«العائدون» بعمليات فردية مثل قتل القمص أرسانيوس وديد. وهى محاولات فاشلة للانتقام من كشف حقيقتهم أمام أتباعهم قبل غيرهم. ولذا فان هذا الحادث البشع ليس الأول من نوعه، ولن يكون الأخير.

سابعًا: استطاعت وزارة الأوقاف المصرية خلال السنوات الماضية استعادة العديد من المساجد من سيطرة اتجاهات التعصب والإرهاب. وهى بداية طريق استعادة الوعى بعد أكثر من 50 سنة من نشر وترسيخ خطاب تكفيرى متطرف. وهو ما لن ينتهى بين يوم وليلة.. فاتجاه العقلانية والتنوير وصحيح الدين هو الطريق الصعب الذى يواجه بعنف من الجماعة الإرهابية وأتباعها ومواليها.   

إن البيان الرسمى المتداول لوزارة الداخلية والنيابة العامة لم يذكر مطلقًا أن المتهم مختل أو مضطرب نفسيًا، ولكن بعض التصريحات المنسوبة لمصادر مجهولة الأسماء على بعض المواقع الإلكترونية وبعض مواقع التواصل الاجتماعى هى التى روجت لهذه الفكرة الفاسدة التى تعيد ذكريات اتهام العديد ممن يتعدون على المواطنين المسيحيين المصريين بالقتل وتخريب ممتلكاتهم بأنهم مختلون عقليًا ومضطربون نفسيًا. وبالمناسبة طالما لم يصل المتهم لدرجة عدم المسؤولية عن أفعاله وتصرفاته، فإن القانون لا يعفيه من الحكم عليه وتنفيذ العقوبة. ونذكر أن الترويج للخلل النفسى والعقلى قبل التحقق منه هو محاولات لتصوير الدولة المصرية أمام مواطنيها المسيحيين باعتبارها متنصلة من مسؤوليتها القانونية.. من خلال ذلك الخلط المتعمد بين التطرّف الفكرى والخلل النفسى أو العقلى.

إذا كان ما حدث يصنف باعتباره تطرفًا وإرهابًا فرديًا للوهلة الأولى، فهو يعبر عن توجهات داخل المجتمع بشكل أساسى. والخطر الحقيقى هنا هو مدى تأثير تلك التوجهات لتصل إلى تصرفات المجرمين والمسجلين جنائيًا.. ليتحول الأمر باعتباره تكليفًا دينيًا للتخلص من الكفرة المسيحيين المصريين وتطهير الأرض منهم. وهو ما يعنى استلهام تلك الفئات المحرمة قانونًا لأفكارها ممن يطلق عليهم زورًا شيوخًا وأئمة. وهو الكلام الذى نجد صداه من بعض أتباع الجماعة الإرهابية أو بعض شيوخ الستالايت. وهو ما يتطلب منا التركيز على الثقافة الشعبية التى تروج للكثير من الشائعات على غرار: المسيحيون كفار، واستباحة ممتلكات كل من هو غير مسلم، وتكفير المسلم المعتدل، وتكفير رجال القوات المسلحة والشرطة لمواجهتهم للإرهاب وتصفيته. وألفت الانتباه هنا إلى خطورة ظاهرة التعاطف الرسمى والمجتمعى مع القاتل على مواقع التواصل الاجتماعى من خلال كتائب الجماعة الإرهابية وغيرها.

أعلم جيدًا أن الفكر المتطرف لا يزال متغللًا على العديد من وسائل التواصل الاجتماعى. فكر يحرم تهنئة المواطن المسيحى المصرى بعيده، ويشمت فى موته وقتله.. دون مراعاة حرمة الموت، ويرفض الترحم عليه، ويرفض وصفه بالشهيد. فكر يروج أن المواطن المسيحى المصرى يعبد ثلاثة آلهة، وأن الكنائس والأديرة بها ذهب وأسلحة وذخائر. أنه الفكر الشاذ الذى رفضته ثورة 30 يونيو وواجهته بحسم وحزم، وهو الفكر الذى يرفض تقدم الدولة المصرية طمعًا فى حلم الخلافة الافتراضية.

يحسب للنظام السياسى المصرى أنه يمتلك رؤية واضحة لمستقبل الدولة المدنية المصرية التى يحكمها القانون ويطبق القضاء فيه العدل والمساواة لجميع المواطنين. وهو نظام انحيازه وطنى دون أى انتماء حزبى أو اتجاه دينى.

نقطة ومن أول السطر..
إذا كان قتل المواطنين المسيحيين المصريين يتم على أساس الهوية الدينية، وقتل رجال القوات المسلحة والشرطة يتم على أساس الهوية الوطنية لهم. فإن تطبيق القانون بعدالة ناجزة وحاسمة دون تهاون أو تراخٍ فى حق هذا الوطن هو السبيل للحفاظ على الهوية المصرية.. التى يحاول البعض تشويهها بسحب الخلاف من المربع السياسى إلى المربع الطائفى والدينى.
نقلا عن روز اليوسف