بقلم: زهير دعيم
جئُت لا أعلمُ من أينَ ولكنّي أتيتُ
إنني جئتُ وأمضي وأنا لا أعلمُ
أنا لغزٌ ومجيئي كذهابي طلسمُ
والذي أوجدَ هذا الّلغزَ أعظمُ
لا تجادلْ ذا الحجا من قال إنّي
لستُ أعلمُ..
لست أدري.. غنّاها الشاعر الكبير إيليا ابو ماضي، قصيدة شهيرة!!! صفّق لها الشّرق والغرب، وأطلقوا عليها الطلاسم، ودرّسوها في المدارس والكلّيات، ولقّنوها للطلاب سُمًّا زعافًا.
لست أدري!!!
ولكن ليسمح لي شاعر التفاؤل الكبير:
أيّها الشّاكي وما بك داءٌ
كُنْ جميلاً ترَ الوجودَ جميلا
ليسمح لي أن أقول له ولو بعد عشرات السنين، وبعد أن تمتعّت بالمُعلّم وشربتُ من خمرته الرُّوحيّة أكؤسًا عطرة، ونهلت من ينابيعه ماءً حيًّا، ليسمح لي أن أقول له: أخطأت وكان الخطأ فادحًا.
فأنا أعلم من أين أتيت، وأعلم يقينًا إلى أين سأذهب، وأنا على استعدادٍ تامٍّ أن أصف لك مدينتي الخالدة العتيدة، التي ستكون مكان سكناي وسكنى كلّ البشر الذين "يدرون" مثلي، والذين نهلوا، والذين مازالوا ينهلون من ينبوع الحياة، ويستظلّون تحت تينته وظلّه وستره.
أعرفها وأزورها في منامي، فلا خداع فيها، ولا شهوة ولا حواري ولا مرض ولا بكاء... إنّها فوق المدارك والإنسان وفوق المدى والمحدود.
أعرف يا شاعرنا المهجريّ من أين أتيتُ، ومن أين جئت، وألأهمّ إنّي أعرف إلى أين ستحطّ قدماي بعد رحلتي التي إن طالت وإن قصرت تبقى " مشوارًا".
كم أتمنّى أن تكون قد اختبرت ما اختبرتُ أنا يا شاعرنا المبدع!
كم أتمنّى أن تكون قد تذوّقت قبل أن ترحل وتفارق هذه الفانية، تذوّقت حلاوة يسوع وعذوبته وخلاصه وعسل كلماته وشريعته، فمقتّ هذه الــ"لست أدري" ودريتَ كما دريْتُ أنا أنّ الكون بنجومه ومجرّاته وفضائه وسمواته يحكمه ربٌّ حنون، عطوف، أب لا تشوبه شائبة، ولا يعرف الا المحبة والعدل والحنان والعفو..
انظر يا رعاكَ الله هذه "لا يعرف"... مع أنّه يعرف كلَّ شيء، بل إنه المعرفة بعينها، والحكمة بنفسها.
حقًّا أعرف وأدري إلى أين سأذهب ومن أين أتيتُ.
أعرف الطريق تمامًا، فقد ماشيته وعاشرته وأصادقه كلّ يوم لا أكلُّ ولا أملُّ، والأروع أنّه هو أيضًا لا يملّ بل يدفع الأجر والمبيت والطعام والكسوة وكلّ شيء ولا مِنّة في فيه.
أعرف الطريق يا شاعري..
وليتك عرفته، لقد صرخ على ضفاف بحيرة طبريا أكثر من مرّة، ومازال صدى صوته الشجيّ يردّده نهر الأردن وجبال أريحا واليهوديّة والسّامرة، وتُغنّيه بلابل الجليل وتتنفسه سوسنات الكرمل. صرخ:
"أنا هو الطريق والحقّ والحياة، ليس أحدٌ يأتي إليَّ الآب إلا بي".
سرْتُ معه يا شاعري الحبيب تارة بجانبه وطورًا خلفه، وعندما أتعب أو أخاف الظلمات والمِحن يحملني على كتفيْه ومنكبيه ويعبر بي السّدود.
إنّه عظيم لو تعلم، لا يعرف إلا الحبّ والحنان والتضحية والعطاء.
صرخ مرّةً بميت طواه القبر أربعة أيام فأنتن. صرخ: "أليعازر هلمّ خارجًا".. فخرج هذا الميت سليمًا معافى ملفوفا بالأقماط..
وقد علّق أحد رجالات الله على هذه الأعجوبة قائلًا: لو لم يصرخ السيّد وينادي أليعازر باسمه لقام الموتى كلّهم!!
ويقف الطبّ حائرًا.. مَنْ هذا؟ وتصرخ وترتجّ أورشليم.. من هذا؟ وأنت تقول بعد ألفي سنة: لستُ أدري!!!
ألم تقرأ يا سيدي ولم تسمع عن الذي أخرس الطبيعة ومشى على المياه؟
ألم تسمع عن الذي جبل الطين عينًا ترى وتشاهد وترنو إلى السماء؟
شاعري الحبيب.. كم أتمنّى أن تكونَ قد عرفته فعلًا، فألاقيك هناك في ضيافته ورحابه، حيث لا مرض ولا حزن ولا أنين.