بقلم: أنطوني ولسن / أستراليا
ذكرى الصدّيق تدوم إلى الأبد
يوم الأثنين الماضي ودّعت أستراليا عامة والجالية المصرية بكل فاعلياتها خاصة الأنسان المؤمن والبار ، طبيب الصغار والكبار .. طبيب الفقراء والأغنياء ، طبيب المنكسرين والمحتاجين . طبيب الفرد والعائلة الدكتور سمير تادرس نيح الرب يسوع المسيح روحه في فردوس النعيم مع القديسين أباؤنا ابراهيم واسحق ويعقوب وجميع القديسين .
عزيز على الأنسان أن يفكر في الموت . أو كما نقول نحن المؤمنين الأنتقال ، لأن الرب يسوع نفسه عندما مرّ بهذه التجربة طلب من أبيه في السماء أن يعبر عنه هذه الكأس .. كأس الموت .
مع أن صعوبة الموت الذي هو إنتقال عند المؤمنين والتي عبّر عنها رب المجد في بستان الزيتون عندما كان يصلي ، نجد النصرة عليه في القيامة ، أين شوكتك ياموت وأين غلبتك يا هاوية .
صعوبة الموت والغلبة على الهاوية بالقيامة المجيدة لا شك أن المتنيح الدكتور سمير تادرس كان يعرف عنها الكثير والكثير جداً .
أولاً : لتربيته المسيحية عن طريق نشأته في الأيمان المسيحي الأرثوذكسي .
ثانياً : لممارسته مهنة الطب التي أحبها منذ نعومة أظافره لأنها المهنة الوحيدة التي يكون ممارسها على إتصال مباشر بالخالق العظيم إن كان مؤمنا ولديه إيمان طبيبنا وحبيبنا المتنيح الدكتور سمير تادرس .
لأن الطبيب المؤمن يكون عبر قوة إيمانه يستطيع قبل أن يصف الدواء الشافي أن يلمس نفس المريض المتألم والتي تصل أحياناً إلى حالة اليأس التام فيعمل الطبيب المؤمن على إعادة الأمل لهذه النفس البائسة واليائسة . فتدبّ فيها الحياة حتى ولو كانت هناك بضعة أيام باقية لهذا المريض أو ذاك على الأرض .
هذا ما لمسته أنا شخصياً مع الحبيب المتنيح دكتور سمير تادرس عن طريق أصدقاء مروا بهذه التجربة الصعبة في مرض أبائهم واعزائهم فكان الرجل الأنسان المؤمن سمير تادرس هو المشارك معهم آلامهم فيجلس ويبكي ، بدلاً من أن يكفكف دموع المتألمين نجدهم هم اللذين يكفكفون دموعه . أو يحتضن كل منهما الآخر محاولاً تهدئة بعضهما البعض بكلام الأنجيل المقدس .
سمير تادرس الطبيب نهج لنفسه منهجاً واضحاً وضعه دستور حياته في علاقته مع مرضاه وبالطبع في علاقته مع كنيسته الأرثوذكسية ومع الله .
سمير تادرس الطبيب كان يكره الكذب والكذابين فلا يستطيع أحد أن يمسك عليه أنه أعطى يوما لمريض يستطيع مقاومة المرض والذهاب الى العمل شهادة مرضية . ومن يدخل إليه مطالباً بشهادة مرضية وهو غير مريض يقف ويشير له بأصبعه بالخروج من الغرفة ويرفع سماعة التليفون للسكرتيرة ليقول لها إلغي ( كشف فلان أو فلانه ) .
سمير تادرس الأنسان الطبيب كنت عنده وزوجتي لمعايدتنا . بعد المعايدة طلبت منه متردداً شهادة مرضية لزوجتي بيومين فقط . قلتها وأنا منتظر على الأقل أن ينظر الي بنظرة غاضبة أو عاتبة. لكنه أخرج ما يكتب عليه شهادته وقال لي ( انها تحتاج الى أربعة أيام حاليا ...وسأراها بمشيئة الرب قبل انتهاء هذه الفترة لربما تحتاج الى راحة أخرى ) . كانت هذه الشهادة ليست مجرد شهادة مرضية تثبت مرض زوجتي ، بل انها وسام تضعه على صدرها يثبت أنها لا تكذب أو تتمارض .
سمير تادرس الأنسان الطبيب لم نعرف عنه أنه يسعى الى جمع المال مثل غيره من الأطباء أو غير الأطباء .بل كان يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله . لم يعرف عنه عند معايدته لمريض لا يكتفي بالمعايدة وهوجالس ، بل نراه بعد السماع الى المريض يأخذه الى حيث يستطيع معايدته والكشف عليه أو عليها كشفاً دقيقاً .
عندما يكتب الطبيب الأنسان سمير تادرس دواء لمريض وتكون المرة الأولى التي يتناول أو يستخدم المريض فيها هذا الدواء . نجده يخرج ورق من درج مكتبه ويبدأ بتوضيح كيفية استعمال الدواء.
هناك الكثير والكثير جداٍ مما يقال عن الأنسان الطبيب المتنيح سمير تادرس وأيضاً هناك المقرّبون اليه أكثر مني من الذين عايشوه عن قرب ، فأنا فقط كنت صديق مريض يذهب اليه يعايدة الدكتور سمير تادرس مثل كل مريض يذهب اليه لمعايدته وان جمعنني وبيته الكلمة التي يقراونها لي .و كنت أتلقى تعليقاتهم سواء بالتليفون أو بالبريد إن لم أكن أحتاج لزيارته في عيادته .
عندما أعيد التفكير في سيرة هذا العظيم أشعر بأنه كان يملك من الله هبة شفافية النفس التي تستطيع أن ترى الغيب وأنا أؤمن بوجود هذه الشفافية عند بعض المؤمنين وأستطيع أن أؤكد هذا الكلام بالقول العملي الذي رأيناه قد اتخذه بعد أن قرر احالة نفسه الى المعاش مبكراً . فسر البعض ذلك ( بالقرف ) من مهنة الطب . وفسر أخرون أنه يعيش حياة المريض ويتألم معه . كل هذا وارد فلكل مهنة متاعبها ومشاكلها.
حقيقة أنه أكثرالأطباء الذين عايشوا مرضاهم ولم تنقطع صلتهم به بمجرد خروجهم من مكتبه . كان يسأل عن المريض حتى ولو لم يكن هو طبيبه . حدث هذا مع زوج ابنتي التي اتصلت به بعد ان توقف عن العمل وأخبرته بحالة زوجها الصحية وما كتبه له الطبيب المعالج من علاج . طمأنها الرجل وداوم على الأتصال بأبنتي وزوجها للأطمنان عليه .
لكن ليست أتعاب المهنة هي التي جعلته يتقاعد مبكرا . لا ... أنها الشفافية المستقبلية التي كان يعرفها ويختزنها في قلبه وعقله ووجدانه . لم يهتم أو يسعى الى المال . بل كان كل همه واهتمامه العمل والسعي لأرضاء الله في الأنسان .
لذا أعطى نفسه فسحة من الوقت ليخلو فيها الى نفسه ويبدأ العمل بالعدّ التنازلي لملاقاة حبيبه الرب يسوع . فكانت حياته في السنوات الأخيرة هي النموذج الذي يمكن أن يتّبعه كل مؤمن مثله بالأيمان المسيحي العظيم ، فكان يخدم الشباب في مدارس الأحد ، ويذهب الى العجزة وكبار السن في بيوت العجزة لمعايدتهم ومزاولة مهنة الطب الروحي والجسدي في وقت واحد . حتى ما أن يتمّ السعي يستطيع ملاقاة الرب يسوع مرددا ما ردده الرسول بولس في رسالته الثانية لأهل تيموثاوس الأصحاح 7 : 4 – 8 حيث يقول :
قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الايمان . وأخيرا قد وضع لي أكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً ,
دكتور سمير تادرس وداعاً .. تركتنا بالجسد .. لكنك تركت للأنسانية شمعة الايمان المسيحي المضيئة التي لا تستطيع رياح الشر أن تطفئها . كنت المثل الحي وسطنا لهذا الايمان ورحلت ومع ذلك ستبقى ذكراك خا لدة سيرة عطرة يتداولها المؤمنون .
شيعت الجالية المصرية في سيدني جثمانه الطاهر يوم 30 / 8 / 2004
تم نشر المقال في جريدة " المستقبل " / أستراليا في 4 / 9 / 2004
من ذاكرة كتاب ( المغترب ) الجزء السادس سيدني / أسترتليا 2006
دكتور سمير تادرس مازالت سيرتك العطرة في قلوبنا وستظل تتداوله الأجيال...
أنطوني ولسن والعائلة 26 / 9 / 2012