حمدي رزق
«برد الأكباد عند فقد الأولاد».. كتاب يبحث في فضل الصبر على الابتلاء، طالعته مرات عند فقد الأحباب، ألتمس صبرًا، وبالأمس مجددًا في وداع مَن أحببت، في رحيل الموهوب الصحفى الجميل «أحمد النجمى»، الله يرحمه ويُحسن إليه، كما أحسن إلى مَن كان يحبهم.

«سافر في يوم ما واعدنى، على الوصال وعاهدنى، وكان وصاله وداع»، طوال عام أخير انشغلت عنه، الدنيا تلاهى، وصار صمتًا لم نعتده، وكنت أسمع أخباره السعيدة على البعد، تزوج مجددًا، وحال سفرى إلى لندن أن أكون شاهدًا على عقد جديد يفتتح به حياة جديدة، وتمنيت له السعادة التي افتقدها طويلًا.

ولم أكد أحط الرحال، وأتواصل حتى قطع حالة الصمت، بتليفون دافئ، بقولته المحببة: يا أبانا الذي في المنيل، كيف أصبحت؟ وصل ما انقطع، استعدنا ذكريات خلت، وعلى وعد باللقاء في مقهى المنيل، حيث يطيب له شُرب القهوة المرّة، سادة بوش في فنجان.

عندما أخبرنى أخى وصديقى «أحمد أيوب»، رئيس تحرير مجلة «المصور»، بعد منتصف ليل الثلاثاء، بقوله: «البقية في حياتك.. أحمد النجمى تعيش أنت»، وبكى بكاء مرًا يقطع نياط القلوب، طفق لسانى يردد: كده فسرت الحلم، النجمى كان بيودعنى يا أيوب.. آه يا حبيبى، مهنش عليه يغادر دون وداع، سبحان من له الدوام.

رحل باكرًا، دون أن يحقق أحلامه، وكان جديرًا بالأحلام الكبيرة، موهبة صحفية نادرة، قلم سيال، مع مسحة سخرية محببة، ابن أبيه، ابن طيب الذكر العم المؤرخ الفنى الكبير «كمال النجمى»، كان ضليعًا في اللغة العربية، صائغ الكلمات، من جواهرجية الصحافة اللى إيدهم تتلف في حرير، القلم طوع بنانه، كنت أعجب من بلاغته، وإذا تفحص نصًا كان ناقدًا مبشرًا.. خسرته «دار الهلال»، خسرته مهنة تنزف جواهر التاج من الموهوبين.

وعن فقدى، لا تسل، ما بيننا تجاوز علاقات العمل، والأستاذ والتلميذ، تجاوزنا سويًا الزمالة والصداقة، ارتقى كونه ابنى الذي حملت همه، وفرحت بنجاحه، هو ابنى الذي ليس من صلبى، ودفنته على عينى. اللهم إنّا استودعناك ابنًا صالحًا.

الله يرحمه كان طيب، وريحه خفيف، ومنذ شاهدته لأول مرة في طرقات «دار الهلال» العريقة، اصطفيته ابنًا حبيبًا، وكان بارًّا بى، محبًّا، مخلصًا، وكنت أتابع منشوراته الصحفية على البعد باعتزاز وفخر، وجمعتنا أسرة طيبة، في «دار الهلال»، في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. لا أعرف لماذا كنت أحمل همه دومًا، قلب الأب، ولما كان يسألنى عن حبى له، أجيب بكل أريحية وصراحة، علاقة محبة لا شية فيها، خلوٌّ من أطماع الدنيا، وكان حظه من الدنيا قليلًا، حتى بعد أن ابتسمت الحياة بفرحة غادر إلى الحياة الأبدية، فيها السعادة التي تمناها، راحة بعد شقاء.

تودع ابنك، تنزع قلبك، تنزف نزيفًا داخليًا، أوراق شجرة المحبة تتساقط، حتى البراعم الخضراء تتساقط، أمام المقبرة فاغرة فاها، كل هذا العالم من حولى لا أحد، سبحانه وتعالى يلهمنا صبرًا، ويؤتينا عزمًا على مواصلة مشوار الحياة دون سند، دون عكاز نتسند به في الطرقات الخاوية من البشر الطيبين.
نقلا عن المصري اليوم