بقلم عادل نعملن
حين وطأت قدماى أرض بيشاور أوائل تسعينيات القرن الماضى، مرورا إلى الأراضى الأفغانية، بهدف توزيع المعونات والعطايا على أسر شهداء الجهاد الأفغانى، رأيت بأم عينى تجار الجهاد الكاذب المزيف، صناعة مشايخ الوهابية، تجار العملة والسلاح والأطفال والغذاء والكساء.
فى دولة الخلافة الراشدة الحديثة، ومركز الكون الذى يدور حوله إيمان الموحدين، وعلى أطرافها ترفع الأعمال والأرواح إلى جنة الخلد والخالدين، وعلى طرقاتها تقف الحور العين من الخيرات الحسان تختار من شهداء المجاهدين رفقاء الأسرّة والمخادع من المساء حتى الصباح (هكذا زعم الصحاب المتكلفون).. لمست فيها بيدى صور التربح والتكسب الحرام من أموال المتبرعين المسلمين المضللين، وفى سبيل غير سبيل الله.. وحسبت بالورقة والقلم كيف تخرج المائة دولار لكساء أو غذاء طفل يتيم من الأطفال الأفغان، فلا يكاد يستره من الجسد الهزيل العارى إلا نصفه العلوى فقط، أما عن الغذاء فيكاد يكفيه ربع شبع دون الجوع، أما الغطاء الوثير والغذاء الوفير والقصور المنيفة المشيدة على أطراف بيشاور من حظ ونصيب سماسرة الجهاد ووسطاء الحروب من المشايخ المفسدين فى الأرض.
وفى صحبة أحد الأصدقاء الفلسطينيين، كانت الرحلة داخل الحدود الأفغانية شاقة وقاتلة.. ولأنى كنت مكلفا بتوصيل هذه التبرعات إلى أصحابها، فقد قررت أن أضعها بنفسى بين يدى المستحقين، ولم أكتف بالمناولة للوسطاء الذين قابلتهم. واكتشفت للوهلة الأولى أنهم سماسرة جهاد، يتاجرون ويتلاعبون ويسرقون نهارا، وفى الليل يجتمعون يصلون وينشدون ويسبحون، ودعوت الله أن يخرجنى من هذه القرية الظالم أهلها قبل أن يتم التخلص منى كما تخلصوا من غيرى من حمَلَة التبرعات والعطايا والصدقات بعد سرقة أموالهم.
واستجاب الله لدعائى وخرجت من أرض النفاق بعد نقاش حاد مع مشايخ الجهاد الأفغانى، وقد كان عن حجم التبرعات التى تذهب إلى جيوب السماسرة والوسطاء، وأطفالهم مرضى وجوعى دون تعليم أو رعاية.. وتساءلت: ما جدوى هذا الجهاد وهذا الخراب إن كان المصير مظلما، والبؤس أشد من بؤس المحتل، والظلم قد زاد وعم وفاض؟.. أليس من الحكمة الاعتراف بأن نصف العدل تحت راية المنافقين أجدى وأربح من الظلم الكامل تحت راية المؤمنين الموحدين؟!.. وقد كانت ليلة خروجى هذه حدًّا فاصلًا بين الحياة والموت، وهو مصير الكثير من حملة التبرعات المتسائلين والحيارى فى أرض الخلافة.
فى أمريكا، كتبت سلسلة مقالات عن «زيف الجهاد الأفغانى»، إلا أن المعلومة قد وصلتنى «رسميًا» أن ما يدور وتسمعه وتراه عن قصص الجهاد، وصعود أرواح الشهداء وسط الموسيقى الجنائزية الملائكية وزغاريد الحور العين والجنة التى تبدأ حدودها هناك حيث النعيم الأبدى والتى أُعدت لهؤلاء المجاهدين دون غيرهم.. كل هذا تأليف مشايخ الوهابية، أعدت إعدادا جيدا، وأخرجتها المخابرات الأمريكية بمساعدة دول عربية معروفة.. وأن هذه التبرعات والأموال التى يتم جمعها بواسطة المكاتب الإغاثية لكل النازحين بلا عمل وسماسرة الجهاد يتقاضون نسبة مسموحا بها، وهى عشرة بالمائة من هذه التبرعات، فقد انتشرت المكاتب من الشرق إلى الغرب، وعم الحجاب والنقاب واللحى أرجاء المعمورة، وانتشر الجلباب والسروال القصير لزوم جمع التبرعات، وانتشرت الخُطب الباكية الرنانة تدعو المسلمين للجهاد والتبرع ولو بشق تمرة.. ولم يكن الهدف إعلاء كلمة الله، بل إعلاء رصيد هؤلاء المتاجرين فى البنوك.
وقد كنت أعرف الحقيقة كاملة فى أوانها، وقلت يوما إن محاكمة هؤلاء المشايخ، الأموات منهم والأحياء، الذين ضللوا الأمة واجبة يوما ما، لكشف الحقيقة للشعوب المغلوبة على أمرها.. إلا أن الملف مازال مغلقا لم يُفتح بعد!!.
والعرض يا سادة مازال مستمرا بطعم آخر فى بلادى.. تبرعات دون حسيب جاد أو رقيب أمين، وشركات تجارية تأسست لإدارة الفائض من هذه الأموال، يديرها أصحاب هذه المؤسسات الخيرية وأولادهم بمئات الألوف من الرواتب والامتيازات والعمولات، وخلط متعمد بين أموال التبرعات والحسابات الشخصية، وملايين يتم تداولها بعيدا عن الحسابات الرسمية لهذه المؤسسات الخيرية.. وبحسبة بسيطة، لو حسبنا حجم التبرعات التى تتحصل عليها هذه المؤسسات وحجم الإنفاق المخصص له، ستجده قريب الشبه بما كان يصل لأبناء المجاهدين واليتامى الأفغان، نصف كساء ونصف جوع، وكله بالقانون وبالشرع، نسبة يسمح بها القانون والأخرى يسمح بها الشرع تحت اسم «والقائمين عليها».
انتبهوا أيها السادة أصحاب القرار، إن أموال التبرعات فى ذمتكم، حاسبوا هؤلاء قبل فوات الأوان، وافتحوا ملفات هذه المؤسسات الخيرية، ستجدون سراديب مفتوحة ما لها من قرار.
نقلا عن المصرى اليوم