فاطمة ناعوت
دخلت السيدةُ «كاميليا»، المدرسة بالمعاش، إلى عيادة الطوارئ لوعكة ألمّت بها، لتفاجأ بالطبيب المعالج ينحنى ليقبّلَ يدَها! تفرّستْ فى ملامح الطبيب لتتعرفَ على أحد تلاميذها القدامى ممن لم ينسوا فضلَ مُعلّميهم. الدكتور «هانى غيث» كان تلميذها المتفوق فى الصف الرابع الابتدائى. لمحت «ميس كاميليا» شغفَه بالعلوم فتنبأت أن يكون طبيبًا. وحين التقته فى المرحلة الثانوية قالت له: «هتدخل الطب كما اتفقنا يا هانى». وكان ما توقعت. لم ينس تلاميذُها، الذين صاروا أطباء ومهندسين وأساتذة جامعيين، إن «ميس كاميليا» كانت تستغل وقت «الفُسحة» لتشرحَ ما استغلق عليهم لكيلا يلجأوا إلى الدروس الخصوصية. فظلّوا حاملين لها الفضل وكلما التقوا بها أمطروها بآيات الحب والامتنان. تابعنا هذه القصة الجميلة على صفحات الميديا والقنوات فذكرتنى بأحد أصحاب الفضل علىّ فى مسيرتى التعليمية ممن كرّسوا شغفى بالرياضيات والهندسة وعلمونى «الأخلاق». مسيو «موريس إسكندر»، معلم الرياضيات الفذّ الذى علمنا أن فى الرياضيات تكمن مفاتيحُ سرّ هذا الكون المعقّد. حين كنتُ فى الثانوية العامة، تقرَّر سفره إلى «غينيا» فى منحة دراسية. حزنتُ وتأكدتُ أننى لن أحقق المجموع الذى يؤهلنى لكلية الهندسة! لكنه ابتسم لدموعى قائلا: (اطمنى. انسى الرياضيات وذاكرى بقية المواد. أنا شرحت لك منهج الثانوية العامة، ومنهج سنة أولى هندسة كمان، لأنك ببساطة هاتدخليها!»، وبعد أسبوع من سفره، جاءنى ساعى البريد بخطاب أزرق يحمل طابع «غينيا»، به معادلات فى «التفاضل والتكامل»، وبالأسفل مكتوب: «حلّى المعادلات وابعتيها! مسيو موريس»، وتوالت الرسائلُ، ودخلت هندسة عين شمس، وتخرّجتُ فى قسم «العمارة»، وتزوجتُ وأنجبتُ وتخرّج ابنى «مازن» فى كلية الهندسة أيضًا، لكننى لم أنسَ أستاذى، الذى لم يعلّمنى الرياضيات وحسب، بل علّمنى قيم: «الالتزام والمهنية»، وقبلهما علمنى: «المحبة» التى لا تسقط أبدًا. آنذاك لم يكن هناك إيميلات، ولا موبايلات تُيسّر أمر التراسل كما اليوم، لكن كان هناك شىءٌ أعمقُ، اسمه: «المسؤولية».
عام ٢٠٠٦، فزتُ بجائزة أدبية من هونج كونج، وقرر «اتحاد الكتّاب المصريين» عقد ندوة أدبية للاحتفاء بجائزتى وتكريمى، وكتبتِ الصحفُ الخبر. فى الندوة طلب أحدُ الحضور الكلمة. قال: (منذ أكثر من عشرين عامًا، تنبأتُ لهذه التلميذة النجيبة التى تجلسُ على المنصّة الآن، أن تكون ذات شأن فى مُقبل أيامها. لم أتصوّر أن تبرع فى الآداب، بل فى الرياضيات التى نبغتْ فيها! فإذا بها تدخل الهندسة، ثم تنال جائزة أدبية من الصين! نبوءتى تحققت، لكن فى مسار مختلف!). تفاجأتُ بأن المتحدث هو «مسيو موريس»، فصرختُ من فرح المفاجأة. حين يهاتفنى اليوم ويقول: (صباح الخير يا أستاذة!)، أشعرُ بأن الكون «تشقلب»، وأن الكلمة «فيها حاجة غلط». فهو سيظلُّ «الأستاذ» وأنا «التلميذة» الصغيرة التى كانت تناوله «كراسة الواجب» وقلبها يرجفُ ترقّبًا: «هل حللتُ المعادلات صح؟» وأقرأ الإجابةَ من ابتسامته، فأطمئن. (مينفعش تقولى «أستاذة» أنا تلميذتك!)، هكذا أهتفُ فى غضب. فيضحكُ قائلا: «التلميذة كبرت وبقت أستاذة».
قبل سنوات كتبتُ فى جريدة «المصرى اليوم» مقالا عنه بعنوان «مدرّس الرياضيات». وانهالت على الرسائلُ من تلامذةٍ قُدامى لهذا المعلم المحترم، وقد صاروا اليومَ رموزًا رفيعة فى المجتمع، يفخرون، مثلى، بأنهم تتلمذوا على يديه. إحدى الرسائل كتبها المستشار «محمد الشربينى» المحامى الدولى، جاء فيها: «إلى الأستاذة/ فاطمة ناعوت. أقول (أستاذة) لأؤكد أن مَن ترعرع تحت قبّة الأخلاق الذهبية التى شيّدها المعلّم الفاضل مسيو (موريس إسكندر)، لابد أن نقرَّ له بالأستاذية. حين راحت الأخلاقُ تخبو كشبح خيالىّ من الفولكلور المندثر، صار القليلُ من المعلمين يستحقون لقب: (مُعلِّم فاضل). يُعلّم الأخلاق قبل أن يعلّم اللغة العربية أو الرياضيات أو الفلسفة. لقد ترك فينا الأستاذُ علامتَه وبصمتَه. فلم يكن معلمَ الرياضيات وفقط، بل معلّمٌ للأخلاق كذلك. كان (مسيو موريس) يعلمنا القيم والأخلاق مقتبسًا من آيات القرآن الكريم الذى يحفظه عن ظهر قلب. لقد حظيتِ يا أستاذة، كما حظيتُ أنا، بفرصة التربية قبل التعليم من نموذج أرجو أن يحذوه كلُّ معلم، حتى يجد فى مقبل الأيام رموزًا عالية فى المجتمع تستوقفه قائلة: أنا كنت تلميذك، ونفسى أشكرك. أرجو أن توصلى كلماتى للأستاذ (موريس)، مع احترامى».
فى عيد ميلادى قبل عدة أعوام، فوجئتُ بزيارة رائعة من مسيو «موريس»، وزوجته الجميلة مدام «ماجى». وقدّما لى قلمًا أنيقًا ماركة Cross محفورًا عليه اسمى F.Naoot. وكأنما قدّم لى قطعة جميلة من سنوات عمرى السابقة. مسيو «موريس إسكندر بشاى»، أستاذ الرياضيات العظيم، أقبّل يدك وجبينك بهذا المقال. شكرًا لك وليت المعلمين يتعلمون منك كيف تُعلّم أبناءك «درس الحياة الرفيع».
نقلا عن المصرى اليوم