القمص يوحنا نصيف
+ إنّ معرفة الإنسان محدودة، وكثيرًا ما تأتينا المعلومات عن بعض الأمور غير مكتملة، وبها الكثير من المناطق المُظلِمة، أو لنقُلْ بعض الفراغات.. ولكي تكتمل الصورة أمامنا، نحتاج لملء هذه الفراغات.. وهذا ما ينبغي أن نقوم به عن طريق طرح الأسئلة والبحث والتحرّي والقراءة، لمعرفة المزيد من التفاصيل، من أجل تكميل الصورة..
+ هكذا ونحن نقرأ الكتاب المقدّس، نحتاج أن نقرأه قراءة شاملة سريعة في البداية، حتّى نفرش أحداثه وموضوعاته في أذهاننا أوّلاً، قبل أن نبدأ في القراءة التأمّليّة العميقة.. أمّا إذا كنّا نأخُذ بعض المقتطفات من هنا ومن هناك بدون استيعاب الصورة الكلّيّة للأحداث، فسيكون أمامنا الكثير من الفراغات، التي ستؤثِّر بالتأكيد على فهمنا لمعاني الكلمة، وبالتالي على علاقتنا بالله..
+ أحيانًا أيضًا ونحن ندرس التاريخ، تكون المشاهد والأحداث بها الكثير من الفراغات، التي تحتاج مِنّا بعض الجهد في التنقيب والقراءة وربط الأمور، لاستكمال الصورة التاريخيّة السليمة المحايدة، والتي نستطيع أن نحلّلها ونتعلّم منها دروسًا مفيدة..
+ لذلك نحتاج دائمًا أثناء قراءتنا للتاريخ، أن نقوم بتقييم ما نقرأه بفكر مستنير.. وأحيانًا يلزمنا أن نبحث في أكثر من مرجع، ونَطّلِع على وجهات نظر متعدّدة، لكي نميّز الحقائق من التخاريف التي قد يكون كُتّاب التاريخ قد ملأوا بها الفراغات، لسببٍ أو لآخَر..!
+ الحقيقة أنّه ينبغي أن نعترف أنّ تراثنا القبطي يحمل بعض قصص الفولكلور الشعبي، التي حاول الأقدمون أن يملأوا بها الفراغات.. ومعظمها للأسف لا يًقدِّم حقيقة ما حدث بالفِعل في التاريخ، وبالتالي فهي تُعتَبَر شوائب ينبغي تنقيّة التراث منها.. وهذا طبعًا ليس بالمهمّة السهلة، لكن علينا على الأقل أن ننتبه لوجود مثل هذه الشوائب..!
+ إذا انتقلنا لجانب التطبيق العملي في التعليم.. ففي ضوء الكلام السابق، نرى أنّه عندما يتحدّث إنسانٌ في موضوعٍ ما مع وجود فراغات كبيرة في معرفته، قد نجده يحاول ملء هذه الفراغات ببعض اللغو أو الخيال، وأحيانًا بكلام غير سليم يخالف الحقيقة، مِمّا يشوّه عرضه للموضوع، ويشكّك في باقي ما عَرَضَهُ من معلومات.. لذلك، إذا كُنّا متّفقين على أنّه من المستحيل الإلمام بكامل المعرفة، فإنّنا نحتاج عندما نتحدّث في أيّ موضوع أن يكون لدينا ملء الفراغات'>مهارة ملء الفراغات بأسلوب حكيم ودقيق وصادق، ونتعلّم أيضًا قول الكلمات البسيطة المتواضعة: "لا أعرف"، "هذا الموضوع يحتاج لبحث أكبر".. بدلاً من ملء الفراغات بكلام كاذب أو غير موثوق في صحّته..!
+ وجود الفراغات في حدّ ذاته هو أمر غير مريح للنفس التي بطبيعتها لا ترتاح للمجهول.. ولكن ما يعزّينا أنّ هذا الوضع مؤقَّت، وسينتهي في الأبديّة التي يقول عنها القديس بولس الرسول: "لأننا نعلم بعض العِلم.. ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يُبطَل ما هو بعض.. الآن أعرفُ بعض المعرفة، لكن حينئذ سأعرِفُ كما عُرِفت" (1كو13).
+ الإيمان أيضًا يمكن أن يملأ الكثير من الفراغات الموجودة بسبب نقص المعرفة، إذ هو ثِقة في الله صاحب المعرفة الكاملة والكلّيّ القدرة، الذي هو في نفس الوقت المُخَلِّص محبّ البشر، لذلك فالاتكال عليه يحفظ النفس في طمأنينة مهما كان حجم المجهول.. وعِشرة الله بوجه عام تملأ أيّ فراغات، وتُشبِع القلب وتملأه بالنور والبهجة..
+ من جهة أخرى، فإنّ الفراغات غير قاصرة على نقص المعرفة، بل قد تكون فراغات في الوقت.. والناجحون هم مَن يستطيعون استثمار وملء أوقات فراغهم بما يبنيهم ويُسعدهم.. فلا يتركون لعدو الخير فرصة لمهاجمتهم، فهو تستهويه مساحات الفراغ في أوقاتنا، وتجعله يطمع في أن يجد له مكانًا يحتلّه في هذا الفراغ..
لذلك من الجميل أن يتحلّى أولاد الله بمهارة ملء فراغات وقتهم، بسماع التأملات الروحيّة، مع القراءات النافعة، والصلوات القصيرة مثل "صلاة يسوع"، فيظلُّوا على الدوام مُحَصَّنين ومنشغلين ومملوئين بمحبّة الله..!
القمص يوحنا نصيف