سمير مرقص
(1) «الأنبا موسى: الصلاح»
الأنبا موسى، (84 عامًا)، أسقف الشباب بالكنيسة الأرثوذكسية المصرية، نموذج لرجل الدين الذى يقوم بخدمة الجميع دون تمييز، دافعه فى ذلك المحبة والمسؤولية.. المحبة غير المشروطة حيال الجميع بغض النظر عن أى تمايزات: دينية أو اجتماعية أو عرقية.. إلخ، والمسؤولية الإيمانية والإنسانية فى تلبية حاجات كل مَن له احتياج وتمكينه من الاعتماد على نفسه.
ويقينى أن الشخصية الخادمة المُحِبة والمسؤولة التى عرفناها عن الأنبا موسى ولمسها كل مَن تعامل معه وظلت قرينة به طول الوقت- والتى أؤكدها عن معايشة لمدة تزيد على الأربعين عامًا- هى نتاج حالة من الصلاح الداخلى ونقاء السريرة، التى تُعينه دومًا وفى أقسى الظروف على أن يسمو على الشدائد ويقابلها بمزيد من العمل الصالح.. بهذه الروحية: روحية الصلاح، استطاع الأنبا موسى مواجهة الكثير من اللحظات الصعبة.
ففى هذا المقام، أذكر أن الأنبا موسى قد تولى مسؤوليته أسقفًا للشباب فى الكنيسة القبطية (سنة 1980)، فى ظل ظرف سياسى غاية فى التعقيد بين الكنيسة والدولة، ولكنه استطاع- دون تفريط وبوعى إيمانى ووطنى- أن يعبر اللحظة الصدامية، كما أذكر كيف تحمل الكثير من الوشايات فى الثمانينيات والتسعينيات بالمزيد من الأعمال الصالحة والخيِّرة.
(2) «الأنبا موسى: المصالحة»
أسهم الصلاح الداخلى للأنبا موسى وتجلياته الخيِّرة فى الواقع فى أن يعتمد مبدأ المصالحة reconciliation مع الجميع، وأؤكد أننى بمعرفتى بالأنبا موسى لم أجده يومًا يعيش حالة خصومة مع أى أحد، ولا أذكر قط أننى رأيته غاضبًا أو ساخطًا من أحد، حتى من بعض ممن كانوا يتعمدون إعاقة بعض نشاطاته، فلقد كان دومًا يصر على الانفتاح حتى على مخاصميه.
وأذكر أن من المبادئ- التى دائمًا يؤكد عليها فى زمن كانت فيه كثير من الخلافات بين القيادات التاريخية- أن يستفيدوا من المزايا التى تميز كل قيادة دون التورط فى الخلافات لأن ذلك ستكون له تبعاته السلبية. ويبدو لى أن شخصية الأنبا موسى المتصالحة مع/ المنفتحة على الجميع تعود إلى أنه وُلد عشية الحرب العالمية الثانية (1938)، فعاش طفولته وفتوته فى الفترة شبه الليبرالية وشبابه فى الخمسينيات، حيث تخرج فى كلية الطب عام 1960 فى ذروة المشروع الناصرى، فحمل أفضل ما فى الزمنين: الليبرالية الفكرية، والعدالة الاجتماعية.
كذلك انفتاحه على كثير من المعلمين والمرشدين والمفكرين ينهل من معارفهم وعلمهم وخبراتهم دون أن يقدس أحدًا منهم.. وتشير مقالاته المبكرة فى الستينيات، حيث كان يعمل طبيبًا، وفى نفس الوقت بدأ يخصص وقتًا لخدمة الشباب، إلى سعة اطلاعه وانفتاحه على جديد الفكر والعلم، إضافة إلى الفكر الدينى فيما يعكس مصالحة واضحة بين: الإيمان والعلم/ الفكر/ العقل/ الثقافة، وبين المؤمن والعالِم، وبين الإيمان والإنسانية، وبين الكنيسة والمجتمع/ الوطن.. إلخ.
(3) «الأنبا موسى: الإصلاح»
فى ضوء الصلاح الداخلى للأنبا موسى ودأبه على المصالحة بأبعادها المتنوعة، كان من الطبيعى أن تتسم تجربته المؤسَّسية بالإصلاح، فبالرغم من «كاريزمته» الشخصية، فإنه كان واعيًا بأن القيادة الصائبة المُحِبّة الساعية للمصالحة لابد أن تقوم على الشراكة والتنوع والتدرج أخذًا فى الاعتبار أن الواقع غاية فى التعقيد، وأن هناك مصالح متضاربة وتحيزات متناقضة، وأن الطبيعة البشرية لها أهواؤها. لذا حرص الأنبا موسى على احتضان الكل واستيعاب المختلفين وإتاحة الفرصة للكثيرين سواء ممن تربوا فى الكنيسة أو وفدوا عليها للعمل مع الأنبا موسى وكانوا من مشارب مختلفة.
واللافت، الذى لا تُخطئه العين، هو توارِى الأنبا موسى وتقديمه للآخرين وحرصه على نسبة أى جهد إلى أصحابه وتأكيده على أنه يتعلم من الجميع بفضل التنوع. لذا انخرطت أسقفية الشباب فى الكثير من الجهود غير المسبوقة فى تاريخ الكنيسة بهدف بناء إنسان: مسيحى أرثوذكسى مصرى معاصر متفاعل وفاعل.. بهذه الرؤية، التى نوجزها فى كلمات، ولكن خلفها مواكبة دؤوب: فكرية وعملية للتحولات المجتمعية الحادة التى شهدتها مصر على مدى أربعة عقود؛ استطاع الأنبا موسى- أمَدَّ الله فى عمره وشفاه وعافاه- أن يقدم لنا تجربة ثرِيّة على كثير من الأصعدة، لم تُدرس بعد الدراسة الملائمة ليس على المستوى الكنسى فقط، وإنما على المستوى الوطنى.
نقلا عن المصرى اليوم