مراد وهبة
فى 2 أغسطس من عام 1985 تسلمت دعوة للمشاركة فى أول مؤتمر دولى ينعقد فى قرطبة بتنظيم من وزارة الثقافة بإسبانيا عن حياة ومؤلفات الفيلسوف اليهودى موسى بن ميمون، وذلك بمناسبة مرور 850 عامًا على مولده. وكان عنوان بحثى «موسى بن ميمون والعقل العَلمانى». والرأى الشائع عنه أنه كان متمكنًا من المعارف العلمية والفلسفية فى زمانه وكانت غايته الكشف عن الحقائق الفلسفية التى تشكل أسس الديانة اليهودية. وكان أيضًا طبيبًا مشهورًا.

أما عن فكرته المحورية فهى تكمن فى تحديد مكانة الأخلاق فى الديانة اليهودية ومدى علاقتها بالعقل والوحى. وكان مترنحًا بين الاثنين بمعنى أنه كان يقبل تأسيس القانون الأخلاقى على الوحى، ومع ذلك فإنه كان يبحث عن تفسير عقلانى لذلك القانون. وفى صياغة أخرى كان الله عنده هو الذى يفرض العقاب على مَنْ يخرق القانون الأخلاقى، وكان العقل هو المسؤول عن كشف الحكمة من ذلك القانون مع بيان مدى معقوليته. تفصيل ذلك على النحو الآتى: استعان بالتلمود فوجد أنه ينص على ضرورة التزام البشر بسبعة قوانين: الامتناع عن عبادة الوثن والهرطقة والقتل والزنا والسرقة وأكل جزء من جسم حيوان حى. وفى هذا السياق لاحظ ميمون أن التراث اليهودى ينص على أن العادل هو الذى يلتزم بهذه القوانين من حيث هى قوانين طبيعية ليست فى حاجة إلى سند إلهى بالرغم من أنها واردة عند مَنْ يستند على التلمود الذى هو عبارة عن جملة قوانين.

ومن هنا كان معناه «الدرس» وهو مكون من جزأين: مشنا وجيمارا. المشنا معناها «التعلم» وهو القانون غير المدون ويتسلمه جيل عن جيل. إلا أن القواعد المنصوص عليها لممارستها جاءت غامضة. ومن أجل إزالة هذا الغموض نشأت جيمارا ومعناها «الاكتمال» وهو تأويل للمشنا.

والسؤال بعد ذلك:
إذا كانت الجيمارا عبارة عن تأويل للمشنا، وإذا كان التأويل علامة أساسية على العلمانية على نحو ما جاء فى تعريف ابن رشد الذى كان موسى بن ميمون معاصرًا له، من أنها عبارة عن إخراج اللفظ من دلالته الحقيقية (أى الحسية) إلى دلالته المجازية، فمعنى ذلك أن موسى بن ميمون يكون فى طريقه إلى العلمانية. وفى هذا السياق أصدر موسى بن ميمون كتابه المعنون «دلالة الحائرين» وكان يقصد بهم أولئك الذين فى حيرة من أمر الصدام بين الفلسفة التى تنطوى على معارف صادقة، وبين الأمور الدينية المنطوية على غموض. ومن هنا لزم التأويل لإزالة ذلك الغموض. إلا أن كلا من ابن رشد وموسى بن ميمون لم يكن لديه الجرأة لإعلان هذا للعامة، أى للجماهير لأن عقلها لا يستسيغ التأويل لأنه قانع بحرفية النص الدينى.

والجدير بالتنويه هنا أن عقل الجماهير مازال ملتزمًا بهذه القناعة. ومع ذلك فالخطورة هنا كامنة فى أن هذه القناعة هى التى أفضت إلى نشأة الأصوليات الدينية التى شاعت وتبلورت فى عام 1979. وحيث إن هذه الأصوليات تتوهم أنها مالكة للحقيقة المطلقة فقد ترتب على ذلك بزوغ الإرهاب الذى تبلور فى أحداث 11 سبتمبر من عام 2001.
نقلا عن المصرى اليوم