فاطمة ناعوت
١١ سبتمبر، يوم استثنائي في تاريخ مصر وأرجو أن يتحول إلى عيد قوميّ، لأنه "رأسُ حَربة" اعتزازنا بهويتنا المصرية الرائدة الخالدة. فأولا هو رأس السنة المصرية في التقويم المصري القديم؛ وكان الأمس هو ١ توت عام ٦٢٦٤؛ وبهذا فهو أقدمُ وأعرقُ تقويم في تاريخ البشرية، حينما اكتشف الجدُّ المصري العبقري حتمية تدوين الزمن، وابتكار تقويم مصري من أجل تنظيم عمليات الزراعة والحصاد. وثانيًا كان الأمس كذلك هو رأس السنة القبطية عام ١٧٣٩، بعد تصفير التقويم المصري القديم في عصر الشهداء عام ٢٨٤ ميلاديًّا. وكذلك كان بالأمس عيد "النيروز" المشتقّ من الكلمة المصرية القديمة: "ني-يارؤو"، وتعني: (الأنهار). لأن شهر (توت/ تحوت) الذي بدأ بالأمس، يتوافق مع موعد اكتمال فيضان نهر النيل (حابي)، أصل الحضارة والحياة عند سلفنا المصري العبقري. أما سبب تحوّر الكلمة المصرية: "ني-يارؤو"، إلى "النيروز"، فيعود إلى الإغريق الذين دخلوا مصر غزاةً عام ٣٢٣ ق.م.؛ وكعادة الإغريق اللغوية في إضافة حرف (س) إلى أسماء الأعلام، فقد أضافوا للكلمة القبطية حرف (س)، فتحولت كلمة (ني يارؤو) إلى  (نيروس)، التي تَحوَّر نطقُها مع الوقت إلى: (نيروز). وعلينا ألا نخلط بين عيدنا المصري "النيروز"، وعيد "النوروز" الفارسي الكردي، الذي يعودُ إلى الكلمة الفارسية: (نو-روز)، وتعني: "اليوم الجديد"، ويتوافق مع بداية فصل الربيع ٢١ مارس في التقويم الميلادي.

التقويم المصريّ القديم يحفظُه عن ظهر قلب كلُّ مزارع مصري؛ إذ يحسِبُ من خلاله مواعيدَ غرس البذور وحصاد المحاصيل وفق شهورها الثلاثة عشر: (توت، بابة، هاتور، كيهك، طوبة، أمشير، برمهات، برمودة، بشنس، بؤونة، أبيب، مسرا، النسي)، وهي ما تُعرف اليوم بالشهور القبطية.  أما العالم المصري الكبير "تحوت"، أو "توت" كما اشتُهر، فيعود إليه الفضلُ في ابتكار التقويم المصري القديم، ولهذا تبدأ الشهور المصرية باسمه (توت) تخليدًا لمقامه الرفيع في العلوم والمعرفة والفلك واللغة والرياضيات والحساب والألسنيات والفلسفة. وهو كذلك مخترعُ حروف الأبجدية الهيروغليفية التي خلّدت حضارتنا الثرية القديمة؛ لهذا يُعرف كذلك بـ "ربّ القلم"؛ فكرّمه  المصريون القدامى ونصّبوه إلهًا للحكمة والمعرفة، في الميثولوجيا المصرية، تقديرًا لعلمه الموسوعي الغزير. وتُصوِّره الجدارياتُ الفرعونية بجسم إنسان ورأس طائر "أبي منجل".  ويكون بهذا النظيرَ الذكوريّ للإلهة "ماعت" ربّة العدالة في أدبياتنا المصرية. وفي هذه الأيام نحتفل كذلك بمرور ٢٠٠ عام على فك رموز "حجر رشيد" العظيم الذي ظهر للوجود عام ١٩٦ قبل الميلاد، ويزيّن اليوم متحف لندن، والذي نرجو أن يعود إلى حضن وطنه مصر. ويعود الفضل في فك رموز الحجر لعالم الآثار الفرنسي "فرانسوا شامبليون" يوم ٢٧ سبتمبر ١٨٢٢، ومن هنا بدأت نشأة علم المصريات العظيم؛ وهو العلم الذي تقرره وزاراتُ التعليم في الدول المتحضرة في مناهج المراحل الابتدائية لكي يتعلم النشء الصغير أصلَ الحضارة الإنسانية في هذا العالم، والتي أشرقت على يد الجدِّ المصري الخالد. تقويمُنا المصري القديم، بدأ قبل أكثر من اثنين وستين قرنًا من الزمان. وهو عيدٌ وطنيٌّ عظيم يخصُّ المصريين جميعًا (وليس عيدًا دينيًّا كما يظنُّ غيرُ العارفين). فهذا التقويم العريق موجودٌ قبل نزول المسيحية بأكثر من ٤٠٠٠ سنة. وأرجو أن تحتفل به مصرُ رسميًّا في مقبل السنوات.

وكعادتنا كل عام احتفلنا أمس الأحد برأس السنة المصرية في رحلة نهرية على الباخرة موفنبيك بالمنيل، مع جماعة (حرّاس الهوية المصرية) بقيادة خبير علم المصريات الأستاذ "سامي حرك"، وارتدينا الملابس الفرعونية وأكلنا من ثمار مصر الطيبة ما تجود به أرضُنا السمراء.

وأقام لنا الدكتور "أحمد غنيم" أمس الأول حفلا شهيًّا على صوت سمراء النيل الساحرة "نسمة محجوب" على مسرح "المتحف القومي للحضارة المصرية" بالفسطاط. قدّم الشكر في مُستهلّه لعالم المصريات المثقف الدكتور "خالد العناني"، وزير السياحة والآثار السابق على جهوده المشهودة في الأعوام السابقة في الترويج المبهر لحضارتنا المصرية الرائدة، والذي سلّم المشعل للدكتور "أحمد عيسى" وزير السياحة والآثار الجديد ليكمل المسيرة الوطنية في الدفع بقطاعي السياحة والآثار إلى آفاق رحبة تطمح في استهداف المزيد من الأسواق السياحية الجديدة لتحقيق تنمية اقتصادية واعدة لمصر العظمى بإذن الله في الغد القريب. ولا ننسى أن نشكر الدكتور "مصطفى وزيري" رئيس المجلس الأعلى للآثار على جهوده اليومية في الكشوف الأثرية التي يقوم بها بيديه مع فرق الكشف. تلك هي "حكاية شعب" لا تشبه حكايا الشعوب.

سنة مصرية جديدة سعيدة، تعدُ أرضَ "طِيبة" السمراء في "الجهورية الجديدة" بالخير والرغد والتحضر والتنمية والنهوض. وتحيا مصر.
نقلا عن الحوار المتمدن