جون جبرائيل
في البداية أحب أوضّح إن الكنيسة سواء الكاثوليكيّة سواء الأرثوذكسيّة (الروم) سواء الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقية (السريان والأرمن) وبالطبع بعض المعلمين في الكنيسة القبطيّة لأن موقفها الرسمي غير واضح، مبتشوفش أي تعارض بين العلم والكتاب المقدّس. عشان أكون متأكد من كلامي هتكلم عن تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة بشأن علاقة الكتاب المقدّس بالعلم. وبمناسبة حصول سڤانتى بابو على جائزة نوبل لمساهمة المبدعة والعلميّة في اكتشاف ركن أساسي من أصل الإنسان مما يؤكّد نظريّة التطور، أفضّل أتكلم عن خلق الإنسان بحسب الكتاب المقدّس ونظريّة التطوّر. ما هو تعليم الكنيسة الكاثوليكيّ بشأن السؤال: كيف يمكن لمسيحيّ عاقل أن يؤمن بكلام الكتاب المقدّس بشأن خلق الإنسان، ويحترم العلم ويؤمن به في ذات الوقت؟

طريقان للبحث
نقطة انطلاق وهدف العلم يختلفان عن الكتاب المقدّس تمامًا. فلنقرأ أوّل ٣ فصول من سفر التكوين:

هدف هذه الفصول هو الإجابة عن أسئلة كان يطرحها بنو إسرائيل مثلهم مثل كل الحضارات المجاورة. فإذًا نحن لسنا أمام شرح علمي عن نشأة الكون والإنسان، ولكن أمام سؤال عن المعنى ولماذا: مَن هو الإنسان، مَن أصله؟ ما العلاقة بين الرجل والمرأة؟ لماذا هناك تجاذب جنسيّ؟ ما علاقة الإنسان بالمخلوقات وبالأرض؟ لماذا الشرّ؟ لماذا الألم؟ ولماذا الموت.

كما قلت، سعت كل الأديان القديمة إلى الإجابة عن هذه الأسئلة. في الحضارة المصريّة تتميّز الإجابة من خلال أساطير مسالمة لا عنف فيها فالآلهة تخلق عن طريق الفصل كالفصل بين نوت (السماء) وجيب (الأرض). أمّا في الأساطير البابليّة والسومريّة فنجد إلى جانب تعدد الآلهة هناك نوع من العنف (راجع ملحمة جلجامش) فالآلهة يقررون قتل تيامت ومن دمها يخلقون الإنسان بعد خلط دمها بالتراب. وهكذا الكثير من الأساطير يمكن قرائتها.

سفر التكوين يستخدم لغة عصره، وبالطبع يتأثر بالعوامل الأسطوريّة لعصره. يستخدم سفر التكوين إذًا تعبيرات وتصوّرات سائدة في عصره لينقّيها ويعطيها مضمونًا لاهوتيًّا توحيديًّا مختلفًا وهو في الوقت ذاته يحاول الإجابة عن الأسئلة السابقة.

 مَن أصل الإنسان؟ الله وحدَه وليس آلهة متعدّدة. مَن الإنسان؟ الإنسان مخلوقٌ ليس إلهًا، ولكنّه في الوقت نفسه مخلوق على صورة الله. الإنسان هو رجلٌ وامرأة. لماذا التجاذب الجنسيّ؟ لأنّما من أصل واحد ويكملان بعضهما بعضًا. الإنسان وكيل الله على الأرض ومدعوّ لكي يكمل عمليّة الخلق، ففي نهاية الأمر يبدو الخلق فعلًا غير مكتمل، كماله يستمر بين يديّ الإنسان المتميّز بالعقل.

العلم؟
العلم مجاله وانطلاقه وهدفه يختلف تمامًا عن الكتاب المقدّس. يبحث العلم عن كيف حدث ذلك؟ كيف ظهر الإنسان؟ كيف ظهر الكون؟ كيف نجعل العالم أفضل من الناحية الماديّة.    

ليس هناك أيّ تعارض أو أي صدام. الكتاب الوحي يبحث عن المعنى أما العلم فيبحث عن كيف. كيف ظهر الإنسان؟ هذا يجيب عنه دارون وسڤانتى. مَن هو الإنسان هذا محاولة من الكتاب المقدّس للإجابة. هذا هو الفرق مثلا بين أن تذهب أختي إلى الطبيب وبين أن تأتي لتتحدث معي. ما يهم الطبيب هو صحتها أو جسدها، ما تسبب في هذا "العطل" في جسدها؟ لماذا؟ وكيف يتم العلاج. أمّا حديثها معي فهو شأن آخر فالكلام هو علاقة وإصغاء وحبّ وعنى معنى حياتها ومعنى أن تكون إنسان وأخت وأم على سبيل المثال. طريقتان ليسا متعارضتان.  

المشكلة تكمن في القراءة الأصولية للكتاب المقدّس وهذا أمر تقف الكنيسة الكاثوليكيّة ضدّه. الكتاب المقدّس عمل بشري إلهي. الكلام والأسلوب والمفردات والتصورات والعلم المذكور فيها كلها هي من إنتاج الإنسان، أما كل التعاليم اللاهوتيّ أو الروحيّة أو الأخلاقيّة (ولا ننسى التدرج في الوحي) فهي من الله. لا يمكن أن تطلب الكنيسة من أي مؤمن أن يفهم المعلومات العلميّة أو التاريخيّة على أنّها حقيقة ثابتة. فنحن اليوم أكثر علمًا وتاريخًا من أي كاتب لأي سفر. فلنقرأ جزءا من المجمع الفاتيكاني (دستور في الوحي المقدّس ٢٢-٢٦):

«ولمَّا كان الله يتكلَّمُ في الكتاب المقدس بواسطةِ البَشَرِ، وعلى طريقتهم، وَجَبَ على شارِحِ هذا الكتاب، ليتفهَّمَ ما أراد أن يوصله الله إلينا، أن ينتبه في تنقيبه إلى ما كان في نيَّةِ الكُتَّابِ القديسين أن يُعبِّروا عنه حقاً وإلى ما راق الله أنْ يُظهرَه بكلامِهِم. ولتوضيح نيَّةِ الكُتَّاب القديسين يجبُ من بين ما يَجبُ اعتباره، اعتبار الفنونِ الأدبيَّة أيضاً. فالحقيقةُ تُعرَضُ وتُفَسَّرُ بصورٍ مختلفةٍ، في نصوصٍ تاريخيةٍ متنوّعةٍ، أو نصوصٍ نَبَويّةٍ أو شعريّةٍ أو في غيرها من أنواعِ التعبير. فمِن الواجبِ إذاً على الشارِحِ أن يُفتّشَ عن المعنى الذي كان في نيَّةِ الكاتب المقدَّس أن يُعبِّرَ عنه وعَبَّرَ عنه حقاً في الظروف المعيَّنةِ التي عاش فيها، وفقاً لأوضاعِ عصرِهِ وثقافتِهِ بواسطةِ الفنونِ الأدبيَّةِ المتداولةِ آنذاك. ولكي يتفهَّمَ تفهُّماً صادقاً ما قد أرادَ المؤلّف المقدَّس أن يؤكّدَه كفايةً، يجب الانتباه سواء إلى طرائق الشعورِ والقولِ والإِخبار المعتادة والأصيلة، أو إلى تلك التي كانت تُتَّبَعُ في ذلك الوقتِ في معاطاةِ البشرِ المتبادَلة. وبما أنّه يَجبُ قراءةُ الكتابِ المقدس وتفسيرُه بذاتِ الروح الذي فيهِ كُتِبَ، فإنَّه من الضروريّ، لتوضيح معنى النصوصِ المقدَّسةِ توضيحاً صحيحاً أن يُنظرَ بالاهتمام نفسِه إلى مضمونِ الأسفار الكتابيَّةِ كلّها ووحدتها، مع مراعاة التقليد الحي للكنيسة جمعاء ومراعاة المُقايسَة في الإيمان. وعلى المفسّرين أن يعملوا طبقاً لهذه القواعد ليفهموا بعمقٍ أكبرَ معنى الكتاب المقدس، ويعرضوه لكي يتَّضحَ حُكمُ الكنيسة، وتكون هذه الدراسة بمثابة تهيئةٍ لها. فكلُّ هذا الذي يتعلَّقُ بشرحِ الكتاب يَخضع أخيراً لحُكمِ الكنيسة، التي كُلِّفَتْ بمهمةِ حفظِ كلمةِ الله وشرحِها بإنتدابٍ من الله ».

في النهاية:
هل انتصر العلم؟ نعم! انتصر وسينتصر دائمًا. وهذا من مصلحة البشريّة جمعاء.
هل سقط سفر التكوين؟الذي سقط وسيسقط دائمًا هو الجهل وأعداء العلم. سفر التكوين ليس كتاب علم، وليس في صراع مع العلم. هو كأي سفر هو نصّ روحيّ ولاهوتيّ كتب من عشرات القرون بعلم عصره ولغة عصره.