صلاح الغزالي حرب
أُذكر القارئ الكريم بما كتبته، فى 28 سبتمبر من العام الماضى، عن الأجنحة الملكية والذهبية، التى أعلن عنها المسؤول عن هيئة الرعاية الصحية فى جهاز مشروع التأمين الصحى، حيث صرح بأن برنامج الخدمات الفندقية بمستشفيات الهيئة بالأقصر سوف يشمل إنشاء عدة أدوار فندقية، تشمل تخصيص 14 جناحًا ملكيًّا و43 جناحًا ذهبيًّا و58 غرفة «فردى» مميزة للإقامة الداخلية فى مستشفيات الهيئة، باعتبار أن ذلك يتماشى مع اتجاه معظم الدول نحو السياحة العلاجية.. وحيث إن مصر بها أماكن كثيرة، ومنذ زمن بعيد لهذه السياحة، فقد طالبته بالتخلى عن هذه الأفكار المكلفة، والتفرغ لرعاية وإعداد مستشفياتنا الحكومية التى تحتاج الكثير. وبعدها، وفى مقال آخر، فى 24 مايو الماضى، عرضت أفكار الصديق العزيز أ. د. أسامة حمدى فيما يخص التأمين الصحى فى مصر، باعتبار أنه سافر كثيرًا إلى كل بلاد العالم، ودرس نظم التأمين الصحى بها، وقد أرسل لى ثلاثة نماذج من دول تتشابه معنا فى الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وهى كوستاريكا فى أمريكا الوسطى، التى وصف نموذجها بأنه أفضل النظم الطبية فى الأمريكتين، وسنغافورة، التى يُعتبر نظامها من أفضل النظم فى العالم، وكذلك تايوان، التى تجمع بين النظام الاشتراكى الصينى والنظام الحر الغربى، وكان الهدف هو الاسترشاد بنظم التأمين الصحى المختلفة ودرجة نجاحها.. ومرت الشهور، حتى استمعت، منذ أيام، إلى حديث د. محمد حسن خليل، استشارى القلب، عضو لجنة الدفاع عن الحق فى الصحة، مع الإعلامى القدير والمميز، الأستاذ إبراهيم عيسى، عن رأى اللجنة فى مشروع التأمين الصحى الجديد، والذى صدر بقانون رقم 2 فى يناير 2018، باعتباره الحل الأمثل لقضية الصحة فى مصر، تحت عنوان «مشروع التأمين الصحى الشامل»، والذى نص على أن يتم تطبيقه على 6 مراحل، خلال 15 عامًا، حتى نهاية 2032، تشمل كل منها عددًا من المحافظات.. وفى عام 2020 وجّه الرئيس باختصار زمن التطبيق إلى 10 سنوات فقط تنتهى فى 2030
وقد عرض د. خليل رأى اللجنة فى مسار مشروع التأمين المنتظر، وأوضح أن هناك خللًا كبيرًا وانحرافًا عن أهداف هذا المشروع كما يتصورها المواطن المصرى المتشوق لهذا القانون.. وقد قمت بالاتصال بالزميل الكريم، وحصلت منه على التقرير المفصل للجنة، والذى سوف أحاول تلخيص أهم ما فيه:
1) النظام القديم للتأمين الصحى، والذى لا يزال ساريًا حتى الآن، بدأ تطبيقه عام 1964، على 140 ألفًا من العاملين بالحكومة والقطاع العام، ثم تدرج ليشمل أصحاب المعاشات، ثم ضم الطلاب والأطفال ما قبل سن الدراسة، بحيث أصبح يغطى نحو 58% من أفراد الشعب، أما القانون الجديد الذى نحن بصدده الآن فقد جاء ليغير التطبيق من الأساس القطاعى الوظيفى ليكون على الأساس الجغرافى باعتباره الضمان لشمول كل المواطنين، ولكن ما حدث هو أنه فى خلال 4 سنوات ونصف السنة تم إنجاز العمل فى محافظتين فقط!، (بورسعيد والأقصر)، ولم يتم التأمين سوى على 1.6 مليون من سكان الجمهورية!، فى حين أن المفترض بحسب البرنامج الموضوع أن تكون هناك 4 محافظات أخرى تنتهى فى آخر يونيو 2023، وهذا يعنى- إن حدث- أننا طبقنا القانون على نحو 6% من السكان فى خمس سنوات ونصف السنة!.
كما أن الخطة الأساسية لهذا المشروع تؤجل المحافظات كثيفة السكان إلى المراحل الأخيرة، فالمرحلة السادسة والأخيرة، المقرر تطبيقها فى الفترة بين 2030 و2032، تُطبق على محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية (50٪ من السكان)، والخامسة تُطبق على الدقهلية والشرقية والغربية (25% من السكان)، أى أن البدء فى تطبيق القانون على 75% من السكان لن يبدأ إلا بعد 10 سنوات من بدء التطبيق!.
2) تبين من التطبيق أن القانون ليس شاملًا كما يبين عنوانه، ولكنه تأمين اختيارى يُطبق فقط على مَن يختار، حيث يحضر بنفسه لدفع الاشتراكات والتأمين، أما عن العمالة غير المنتظمة وغير الخاضعين للتأمينات الاجتماعية، فلابد أن يحضروا بأنفسهم ليدفعوا اشتراكاتهم هم وعائلاتهم كل 3 شهور!.
3) تم تجهيز المحافظتين بأجهزة طبية متقدمة وغالية الثمن، فى الوقت الذى تعانى فيه مصر نقص الكوادر الفنية المتخصصة والاستشاريين، الذين يقومون بالعمل على هذه الأجهزة، مما يشكل إهدارًا للمال العام، وفى كل بلاد العالم هناك خطة مدروسة لوضع الأجهزة المتقدمة على مستوى الدولة تضمن وصول الخدمة إلى مستحقيها، وبأقصى درجة من التشغيل، وتحت إشراف المتخصصين.
4) المفترض، والمطلوب بشدة فى مصر، هو التأمين الاجتماعى وليس التجارى.. بمعنى أن التكلفة المادية تستند إلى المنتفع، (وليس العميل كما يسمى المريض تجاريًّا) ورب العمل والدولة، حيث يدفع رب العمل الجزء الأكبر من التكلفة (3: 1)، كما أن تقديم الخدمات الطبية يكون فى المستشفيات الحكومية ووحدات الرعاية الصحية بسعر التكلفة، وليس لغرض الربح على الإطلاق.. وهناك ملامح عديدة تشير إلى أنه برنامج تجارى وليس اجتماعيًّا، ومن أهمها التأمين على الأطفال منذ الولادة حتى سن الثامنة عشرة، والذى كان مجانيًّا على حساب الدولة فى القانون القديم، أما فى القانون الحالى فقد تخلّت الدولة عن التأمين عليهم، ونقلت العبء إلى ولى الأمر، فصار المنتفع يدفع 1% من إجمالى مرتبه لكل طفل شهريًّا، بالإضافة إلى 1%!.. وكذلك نكاد نكون الدولة الوحيدة فى العالم، التى يبلغ اشتراك المنتفع فيها ضِعف نسبة صاحب العمل تقريبًا، وقد اشتكت معظم النقابات العمالية فى بورسعيد من زيادة الاشتراكات، حيث يصل الخصم أحيانًا إلى 7% من إجمالى المرتب.. أما عن العمالة غير المنتظمة فيدفعون تكلفة الأسرة كلها، وعند الانقطاع عن دفع الاشتراك يسقط التأمين الصحى على الأطفال، كما يُحرمون من التعليم!!، وهناك وجه آخر للتأمين التجارى، وهو يتمثل فيما يسمى الإسهامات، وهى نسبة من سعر الخدمة عند تلقى الخدمة، تبلغ 10% من ثمن الأدوية، بحد أقصى 1000 جنيه، و10% من ثمن الأشعات والتحاليل، بحد أقصى 750 جنيهًا لكل منها، عدا الأمراض المزمنة والسرطان، وهذا ليس فقط فى الشهر الأول، ولكن فى كل عيادة كل شهر!!.
5) المستشفيات المقدمة للخدمة فى النظام القديم كانت لا تهدف للربح، ولكنها تقدم الخدمة بتكلفتها الفعلية، ولكنها فى التأمين الجديد أصبحت مُحمَّلة بالربح، (فى فرنسا تقدم الخدمة من خلال مستشفيات حكومية تقدم 70% من أسرة الخدمة التأمينية وأكثر من 25% من الأسرة يأتى من مؤسسات غير ربحية).. وقد قامت هيئة الرعاية الصحية فى التأمين الجديد فى أواخر عام 2021 بإنشاء شركة قابضة تتبعها 4 شركات تتوزع مهامها على بناء المستشفيات وإدارة خدمات الرعاية والتحول الرقمى والتطوير والتسويق.. أى أن الوظائف الطبيعية التى كانت تقوم بها هيئة التأمين الصحى السابقة تحولت كل منها إلى شركة تحقق أرباحًا، يوزع جزء منها على الإدارة!!.
وانتهى تقرير لجنة الدفاع عن الحق فى الصحة بهذه المطالب الحيوية والعاجلة:
أولًا: لابد من إعادة النظر فى الوضع الحالى المرتبك، فنحن الآن نتبع قانونين.. الأول القديم رقم 79 لسنة 1975 ويتبعه 58 مليون منتفع، وإيراداته 16 مليار جنيه، والثانى الجديد برقم 2 لعام 2018 ويتبعه حتى الآن أقل من 2 مليون مواطن، وإيراداته السنوية 24 مليار جنيه!، ولابد من دمج النظامين للاستفادة من التمويل الجديد والتخلص من العيوب.
ثانيًا: لابد من عودة التأمين على الطلاب إلى المسؤولية المجتمعية للحكومة، ووقف تحويل مستشفيات الدولة إلى كيانات ربحية، واستبعاد الإسهامات، والاكتفاء بالاشتراكات لتخفيف العبء عن المواطنين.
ثالثًا: البدء بتطوير الرعاية الصحية الأولية على مستوى الجمهورية فى الريف والمدينة، ثم الانتقال إلى الرعاية الثانوية والمهارية، شاملة لكل المواطنين بغير استثناء.
رابعًا: تطبيق نص الدستور فيما يخص الإنفاق الصحى الحكومى، وهو 3% من الناتج المحلى الإجمالى، وزيادته تدريجيًّا إلى النسبة العالمية، كما نص الدستور، 6% من الناتج المحلى.
ويبقى فى النهاية أن أوجه جزيل الشكر والامتنان إلى كل أعضاء اللجنة المحترمة على هذا الجهد الكبير، وأتفق مع كل كلمة صدرت عنهم باسم ملايين المصريين، وأطالب الدولة ومجلس النواب بمراجعة أحوال مشروع التأمين الصحى، اليوم، وليس غدًا، فالعيوب واضحة، والأخطاء فاضحة.. وحمى الله مصر.
نقلا عن المصرى اليوم