كمال زاخر
كان اللقاء الأول عاصفاً، كان الطرف الأقوى هو المبادر، وكان الطرف الثانى يَجدُ فى سعيه لتعقب أتباع الطرف الأول، وقد وقر فى عقله أنه يقدم خدمة لله، حتى كاد ان يتفرغ لمهمته الوجودية التى نذر نفسه لإتمامها كما تقول الشريعة. كان اللقاء فى وضح النهار لكنه كان محتشداً بالإبهار بالقدر الذى يربك منطق وفكر وترتيب الطرف الثانى، لكن يبدو أنه كان يملك ثباتاً إنفعالياً ساعده على أن يبقى يقظاً قادراً على ادارة حوار يسبر فيه أغوار هذه المباغتة، كان سؤاله "من أنت ياسيد؟" بعد أن سمع نداء "شاول ... شاول لماذا تضطهدنى؟!"، يحكى لنا شاول أطياف من هذا اللقاء وتصاعده، فى أكثر من مناسبة، حتى ينتهى به الأمر إلى مصالحة وصداقة بين الطرفين، وكيف سعى ليتتلمذ شاول بدأب وإصرار وبشكل مباشر لثلاث سنوات وربما أكثر فى صحراء العربية على الرب يسوع صاحب مبادرة اللقاء، تنتهى بأن يتسلم منه انجيله الذى حمله وجال به بين الأمم، داعياً ومبشراً، وقد طوع كل ملكاته ومواهبه لهذه المهمة الحياتية، وفى مشوار تبدلت فيه أولوياته، ودوره. لم يغير إسمه ولم يتنكر لصلاحياته المدنية والسياسية المكتسبة، فكان مثله مثل كثيرين من أبناء جيله، من مزدوجى الجنسية، يحمل اسماً يهودياً بحكم الانتماء العائلى والعرقى "شاول" واسماً يونانيا "بولس" بحكم جنسيته الرومانية التى اكتسبها ميراثاً عن أبيه الذى كان يعمل فى خدمة الإمبراطورية الرومانية.
لم يكن سؤاله سؤالاً عابراً، ولم يتوقف طرح السؤال عنده، فقد طرح مجدداً بعد أن هدأت نيران الإستهداف المستعرة، التى حاصرت وطاردت جماعات المسيحيين الأوائل، لقرون ثلاثة، بدءً من الإمبراطور نيرون الذى دشن عصر الإضطهاد عام 64 م، حتى بلغ ذروته فى عصر الإمبراطور دقليديانوس ما بين عامى 303 و313، فى بواكير القرن الرابع الميلادى ثم يأتى الإمبراطور قسطنطين ليضع نقطة فى نهاية تلك المرحلة العصيبة، ويعد قسطنطين أحد ابرز الثعالب السياسية، إذ يعيد قراءة المشهد فى امبراطوريته مترامية الأطراف، ويعيد فحص التقارير الأمنية والتقارير التى تعرض الموقف السياسى فيها، ويشد انتباهه، جسارة جماعات المسيحيين فى مواجهة موجات الإبادة، التى يتعرضون لها، وما يبدونه من قبول الموت بابتهاج، وفرح.
لم تكن قضية الإيمان تشغله، لكنه قرأ المشهد بعقلية سياسية استراتيجية، هم رعايا امبراطوريته، وتحكمهم منظومة قيم شكلت جسارتهم وأمانتهم، واستقامتهم، وولائهم للإمبراطورية رغم جسامة معاناتهم، بحسب التقارير المرفوعه له، فلماذا لا يحولهم الى طاقة تدعم أهدافه، وتؤكد إحكام قبضته واستقرار حكمه، يتفتق ذهنه السياسى عن خطة تضمن ترجمة هدفه هذا، الى واقع على الأرض، كانت البداية عام 313م. حين اصدر، بصفته أمبراطور الإمبراطورية الرومانية الغربية، بالاتفاق مع ليسينيوس، امبراطور الإمبراطورية الرومانية الشرقية، منشور ميلان الذى عرف بمنشور التسامح، والذى يقضى بـ "منح المسيحيين وغيرهم الحرية لاتباع الدين والنهج المناسب والأفضل لكل فرد منهم.".
استراحت الكنيسة فقفز السؤال مجدداً: من أنت ياسيد؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرجت الكنائس من تحت الأرض، وخرج المسيحيون من المغائر والشقوق، وعادوا إلى حياتهم الطبيعية، وانتقلوا من حالة الاستنفار والتوجس، إلى حالة تتلامس مع الاسترخاء، وقفزوا على المناصب الهامة بالقرب من الإدارة الحاكمة وقصر الإمبراطور، الذى انتبه إلى كيفية تخليد إسمه فأنشأ مدينة القسطنطينة، وتضمنت كاتدرائية كبرى تليق به وبها، وفرضها كعاصمة جديدة، وفرضها كواحدة من الكراسى الكبرى لتآخى كراسى روما ـ العاصمة السياسية التاريخية القديمة ـ والاسكندرية ـ العاصمة الثقافية الشامخة ـ وأورشليم بما تحمله من عبق الكنيسة الأولى، وأنطاكية العريقة.
دخول الدولة وعلى رأسها امبراطور طموح فى ترتيب الشأن الكنسى المسكونى برؤيته السياسية، بغية توظيفها كقوة ناعمة لدعمه، وضمان ولاء الشعب له من خلالها، أضفى على أمراء الكنيسة صبغة الحكام، وأفضى إلى اقترابهم من البلاط الإمبراطورى، وانتقلت الكنيسة فى دائرة الإدارة إلى التنافس بين الكراسى الخمسة، فى من هو الكرسى الأولى بالقيادة، كان المستقر أن روما بثقلها التاريخى والسياسى فى المقدمة تليها الأسكندرية، فلما ظهرت القسطنطينية الواعدة والمتوعدة، أزاحت الأسكندرية الى المرتبة الثالثة، وحلت محلها تالية لروما.
مع حالة الاسترخاء، فرض الفراغ آلياته على الكنيسة، فبدأت تظهر تأويلات جديدة تتناول أسس الإيمان، ولما كان شخص المسيح هو محور وقاعدة الإيمان، لذلك صار هو محور التأويلات الجديدة، وكانت الكراسى تدعو لمجامح محلية تتناول ما يطرح، وتفحصه وتقومه وتضبطه على ما لديها من قواعد تسلمتها عبر اجيالها المتتابعة من كنيسة الرسل، فيما عُرف بالتقليد، وينتهى الأمر بإقرار اصحاب التأويلات بما انتهت اليه تلك المجامع.
حتى جاء قس سكندرى يملك من الحصافة والقدرة على صياغة افكاره ليشيع رؤيته التى ترفض أن يكون المسيح مساوياً للآب فى الجوهر، وعندما واجهته كنيسة الاسكندرية بما تؤمن به، خرج بطرحه إلى الكنائس الشقيقة، كان محور الأخذ والرد تنويعة على السؤال الأثير "من أنت ياسيد؟".
ارتجت المدن وتعالت وتيرة السجس فى شوارعها، وادرك قسطنطين أن ثمة خطر يتهدد امبراطوريته، فبادر إلى دعوة اساقفة العالم إلى اجتماع فى واحدة من مدن عاصمته، تحت رئاسته، لحسم الجدالات الدائرة بامتداد الإمبراطورية، فكان مجمع نيقية (325م.).
كان اللافت لى وأنا اتابع أعمال المؤتمر الإمبراطورى (المجمع) تعاطى الإمبراطور مع الحدث، وهو رغم موقعه السياسى المتقدم بل الأول، لم يكن طرفاً فى الخلاف، وهو حتى تلك اللحظة لم يكن قد نال سر المعمودية، ولم يكن قد أعلن صراحة على قبوله الإيمان المسيحى، لكنه كان يترأس جلسات المجمع، هكذا، وعندما نقرأ عن القواعد المنظمة لكيفية انعقاد مجمع مسكونى (يضم كافة الكنائس)التى استقرت فى الكنائس التقليدية، نجد فى مقدمتها أن يكون الداعى لها الحاكم (الإمبراطور)، حتى تكتسب شرعيتها والاعتراف بها !!.
يقول المؤرخون أن قسطنطين فى نهاية مؤتمره المسكونى فى وداعه للأساقفة المشاركين، أهدى كل اسقف كرسى مستنسخ من كرسيه الإمبراطورى، وحُلة إمبراطورية، وصولجان كصولجانه، وهكذا صار الأسقف خاصة فى كنائس الشرق صورة مصغرة من الإمبراطور، بل أن الكنيسة شرقاً وغرباً رتبت هيكلها الأدارى على غرار الهيكل الإمبراطورى، خاصة وأن مجمع نيقية قدم اسقف الاسكندرية على أقرانه من اساقفة مصر ليصير هو رأس الكنيسة، وتُناظر الإيبارشية المقاطعة، والأسقف هو المناظر الكنسى لحاكم المقاطعة، وتتشابه ملابس الأسقف مع ملابس الإمبراطور ويضع تاجاً على رأسه كنظيره الإمبراطورى.
ويتكرر طرح السؤال وتتكرر المؤتمرات المسكونية لتنتهى بانقسام الكنيسة على نفسها، وتحجز السياسة موقعاً متقدماً فى مصدامات الكراسى داخل تلك المؤتمرات (المجامع)، وينتقل السؤال من جيل إلى جيل، وتتصارع الإجابات.
تنهار الإمبراطورية الرومانية وتجرى فى النهر مياه كثيرة تتلاطم فيها امواج الصراعات، تندثر كيانات سياسية وتبزغ أخرى.
تراجع موقع الكنيسة فقفز السؤال مجدداً : من أنت ياسيد؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تغادر كنائس الشرق مكانها فى موقع المركز لتنزوى بعيداً عند الأطراف، وتتأثر بثقافة مختلفة لا تستريح لأطروحات الكنيسة خاصة فى دائرة "الخريستولوجى" وتناصبها العداء، مع الأمة الجديدة والتى بسطت نفوذها على الشرقين الأدنى والمتوسط، يتسلل طيف من ثقافتها التى تحاصر الكنيسة، ومعها يعود السؤال الأثير ليطرح من جديد "من أنت ياسيد؟". وتتصارع الإجابات داخل الكنيسة الشرقية، ربما القبطية تحديداً، الممزقة بين تراث عريق محجوز فى رقوق مدونة بلغات مهجورة، وبين ثقافات غازية، فرضت لغتها التى لا تحتمل مصطلحات اللاهوت، وهو تمزق شكلته انقطاعات حادة، تغير فيها لسانها مرتين، مرة فى اعقاب انفضاض مجمع خلقيدونية (451م.) حين قاطعنا بملء الارادة الإكليروسية اللغة اليونانية لتحل القبطية محلها، فى انحياز قومى لا تخطئه عين، والثانية حين أُجبرنا على هجران القبطية كلغة حياة، لأسباب ينكرها من وقف وراء اجبارنا على الهجرة القسرية إلى العربية، فى المساحة ما بين القرنين العاشر والثانى عشر الميلاديين، ومع عوامل تاريخية أخرى ندخل فى نفق طال لقرون، حتى انتبهنا لحاجتنا إعادة التواصل تحت ضغط الإرساليات التى جاءت فى أعطاف الحملة الفرنسية مرة وفى مصاحبة الإحتلال البريطانى مرة، فضلاً عن الحراك الثقافى والتوعوى الذى دشنه الوالى محمد على، ثم الخديوى اسماعيل.
كانت بداية السعى المؤثر مع اسناد عمادة المدرسة الإكليريكية للأستاذ (القديس) حبيب جرجس، الذى أسس منظومة "مدارس الأحد"؛ والتى جاءت استنساخاً لفكرة ونظام تجربة مدارس الأحد الغربية بعد تطعيمها ببعض المظاهر القبطية الارثوذكسية فى الممارسه، وتأثر مؤسسها وجناح شبرا بمصادر تعليمية خارج السياق القبطى الارثوذكسى، وذكر ذلك بأمانة فى كتبه التعليمية، بينما تبنى جناح اخر التوجه الإجتماعى فى مقابل توجه انعزالى لجناح ثالث.
وشهدت الكنيسة صراعاً غير معلن بين كهنة تلك الفترة وتيارات مدارس الأحد، وانقسم معهم الشباب الى فريق شمامسة فى مواجهة فريق مددارس الأحد.
وانتهت المواجهة بتسيد مدارس الاحد بعد صعودها الى الكرسى البابوى لتبدأ مرحلة جديدة تتغير معها خريطة التوازنات، بتوجه الكنيسة الى رهبنة الفضاء الكنسي، وعلى الرغم من ان الرهبنة هى بالأساس حركة علمانية الا انه تم صبغها بالصبغة الكهنوتية، وتم اخضاعها للهيراركية الكنسية، وتم تقنين رسامة اسقف لكل دير، فتفقد تمايزات تجمعاتها والقدر المتاح لها من حرية الحركة، وتنوع مدارسها.
وفى تطور لاحق يتم التمييز بين الكاهن الراهب والكاهن المتزوج، ويمتد محاصرة الأخير بالتوسع فى رسامة ما عرف بالاسقف العام (اسقف بلا رعية !) لتتقلص معه مهام ودور الإيغومانوس (القمص)، بعد ان تراجع دور الشماس لينحصر فى حفظ وترديد الألحان الكنسية.
الأزمة هنا ليست فى خريطة التوازنات المرتبكة واختلال الهيراركية الكنسية بالإختفاء الفعلى لدور كل من الشماس والقمص، وانما فى الصلاحيات المفتوحة للأسقف وارتهان بقاءه برضا البابا البطريرك وجماعات الضغط والمصالح.
والأخطر هو خضوع التعليم فيما بعد صعود جناح من اجنحة مدارس الأحد الى قيادة الكنيسة لما يؤمن به هذا الجناح، والذى نجح فى تكريس التماهى بين قيادة الكنيسة وبين الكنيسة الكيان، واعتبار أن ما تقول به القيادة بشكل شخصى هو رأى الكنيسة. وان من يختلف مع طرح ورأى هذا الجناح انما يختلف مع ايمان الكنيسة (!!!) بل ويحسب مهرطقاً. ويخضع للملاحقة من صقور المجمع.
صارت الإجابة بحسب الآباء على السؤال الأثير محفوفة بالمخاطر، وأقصر طريق لوصم صاحبها بالهرطقة. وهو الاتهام الذى طال التجمعات والمراكز الثقافية التى حملت مسئولية إعادة وصل ما انقطع مع فكر الآباء وخاصة آباء الكنيسة الجامعة قبل الإنشقاق، واعادة رسم خريطة الكريستولوجى، والتأكيد على مكتسبات الإنسان التى صارت له جراء التجسد والفداء، التى أوجزها القديس أثناسيوس الرسولى فى قوله عن الرب يسوع المسيح "أخذ الذى لنا وأعطانا الذى له" واعتمدتها ليتورجية الكنيسة فى تسبحتها.