القمص يوحنا نصيف

 على الرغم أنّ الإنسان مخلوق من العدم، إلاّ أنّ الله في محبّته خلقه على صورته ومثاله كتاج لكلّ الخليقة، ووضعه في الفردوس الجميل الذي أعدّه له..
ومنذ الأزل أعدّ الله خِطّة للارتقاء بالإنسان، من العبوديّة إلى رتبة البنوّة.. كي يكون ابنا له، ومستحقا لميراث الملكوت الذي أعده له من قبل إنشاء العالم (مت25: 34)..
* فكيف يمكن للإنسان العبد المخلوق، أن يصير ابنا ووارثا؟
 هذا ليس له سبيل إلاّ بالاتحاد بابن الله الوحيد.. وهذا ما تمّ من خلال التجسُّد..
من هنا نفهم أنّ التجسُّد كان موجودًا في فكر الله منذ الأزل، من أجل الارتقاء بالطبيعة البشريّة، فينال الإنسان نعمة التبنّي لله الآب في ابنه الوحيد الإله المتجسد، ربنا يسوع المسيح.
 
وبصرف النظر عن سقوط الإنسان، واحتياجه للشفاء والخلاص، فقد كان التجسُّد حتميًّا لكي ننال عن طريقه نعمة التبني في ابن الله الوحيد عندما يتحد بجسد بشريتنا.. وبالفعل فإنّ تجسد المسيح قد حقّق الغرضين، وهما أن يهبنا التبنّي ويهبنا الشفاء والخلاص أيضًا..!
 هذا ما يؤكده قانون الإيمان للكنيسة الجامعة، في حديثه عن ابن الله الوحيد: "هذا الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسّد..."
 فكلمة "من أجلنا" تعني: من أجل تتميم خطته الأزلية في الارتقاء بنا من خلال نوالنا نعمة التبني لله في المسيح.
 
وكلمة "من أجل خلاصنا" تعني: شفاءنا من كلّ آثار الخطيّة، التي جلبت علينا الموت والفساد.
 
 بالطبع نحن نحصل على هذه البركات العُظمى والثمينة على مستوى شخصي عندما نؤمن ونعتمد.. فبموتنا وقيامتنا مع المسيح في المعموديّة، نُغرَس في جسده فننال نعمة البنوة لله الآب، ونغتسل من خطايانا في دمه بمياه المعموديّة، فنموت عن الخطايا ونحيا للبرّ (1بط2: 24).
 
ويوضح هذا المفهوم القديس كيرلس الكبير في العظة 65 على إنجيل لوقا، أثناء تعليقه على الآية المذكورة في (لو10: 21) "أحمدك أيّها الآب، ربّ السماء والأرض، لأنّك أخفيتَ هذه عن الحُكماء والفُهماء، وأعلنتها للأطفال.." فيقول:
 
الآب كشف لنا السرّ الذي كان مكتومًا ومحفوظًا في صمتٍ عنده، من قبل إنشاء العالم، الذي هو تجسُّد الابن الوحيد؛ الذي كان معروفًا سابقًا حقًّا، قبل إنشاء العالم، ولكنّه أُعلِنَ لسكّانه في أواخر الدهر. فالمبارك بولس يكتب: "لي أنا أصغر جميع القدّيسين، أُعطِيَت هذه النعمة، أن أبشِّر به بين الأمم، بغِنى المسيح الذي لا يُستقصى، وأنير الجميع في ما هو تدبير السرّ المكتوم منذ الدهور، في الله خالق الجميع" (أف3: 😎.
 
 إنّ هذا السرّ العظيم المسجود له، الذي لمخلّصنا، كان مِن قبل تأسيس العالم، مَخفِيًّا في معرفة الآب. وبالمِثل، سبقَ أن عَرَفَنا (الآبُ)، وسبق أن عيَّنَنَا لتبنّي البنين. وهذا ما يُعَلّمنا إيّاه أيضًا المُبارك بولس، بقوله: "مبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكلّ بركة روحيّة في السماويّات، في المسيح. كما اختارنا فيه، قبل تأسيس العالم، لنكون قدّيسين، وبِلا لوم قدّامه، إذ سبَقَ فعيّننا في المحبّة للتبنٍّي، بيسوع المسيح نفسه" (أف1: 3-5). فلنا إذَن -كما للأطفال- كَشَفَ الآبُ السرَّ الذي كان مَخْفِيًّا، ومحفوظًا في صمتٍ، طوال الدهور.
 
 بولس أيضًا قال: "انظروا دعوتكم أيها الإخوة، أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون أقوياء، ليس كثيرون شرفاء، بل اختار الله جُهَّال العالم ليخزي الحكماء" (1كو1: 26). فالذين يَظهَرون كأنّهم جهلاء، بمعنى أنّهم ذوو ذِهن نقي وعديم المكر، وهُم بسطاء كأطفالٍ في الشرّ، لهؤلاء أَعلنَ الآبُ ابنَه، إذ هم أنفسهم أيضًا قد سبق فعرفهم، وسبق فعيّنهم لتبنِّي البنين.
 
 المسيح أيضًا قال لتلاميذه: "قد أُعطِيَ لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات، وأمّا لأولئك فلم يُعطَ" (مت13: 11). "أُعطِيَ لكم"، أي لمَن؟ هو بوضوح للذين آمنوا، لهؤلاء الذين تعرَّفوا على ظهوره، للذين يفهمون الناموس روحيًّا.. الذين يعترفون أنّه الله وابن الله، لهؤلاء سُرّ الآب أن يُعلِنَ ابنه..
  سرّ المسيح المكشوف لأولاده هو سرّ المحبّة الإلهيّة، التي ظهرت في خلقته لنا على صورته، ثمّ اكتملت بتجسّده وفدائه.. من أجل أن يؤهّلنا أن ندخل في شركة مع الثالوث القدّوس؛ فنكون أبناء للآب، وأعضاء في جسد الابن، وهيكلاً للروح القدس.. وبالتالي نصير ورثة ومُمَجَّدين في ملكوت أبينا..!
    لك المجد يارب..