الأحد ١٤ اكتوبر ٢٠١٢ -
٠٠:
١٢ ص +03:00 EEST
بقلم: مدحت بشاي
في حوار أجراه الكاتب الصحفي الرائع عبد العزيز صادق، مع المفكر الراحل موسى سلامة، لمجلة الرسالة الجديدة (العدد الثاني الصادر مايو 1954)، وكان يرأس تحريرها الكاتب يوسف السباعي، وهو في منتصف الثلاثينات من عمره، قال سلامة معربًا عن رأيه في أدباء العصر بشكل قاطع وحاد "لست أرى فيهم من يستحق؛ لأنهم انفصلوا عن المجتمع الذي نعيشه". وأضاف.. إن الأدب الحي يجب أن يرتبط بالواقع حاملًا همومه".. وعندما سأل موسى "هل قرأ لأدباء هذا العصر" قال "قرأت لهم جميعًا ولم أجد فيهم من يستحق أن يقرأ لهم أولادنا أو حتى أحفادنا بعد عشرة أعوام".. وعن رأيه في "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي و"زقاق المدق" لنجيب محفوظ و"أرض النفاق" ليوسف السباعي، قال عن نجيب محفوظ إن ما يكتب يدل على نبوغ ولكن لا أدري هل سيبقى هذا النبوغ على مقاييس العصر القادم..
وتحت عنوان "كلام العيال" يرد السباعي في نفس الصفحة التي نُشر فيها الحوار مع سلامة موسى مخاطبًا إياه "لقد عايرتني أولًا بصغر السن.. ولست أرى في ذلك عيبًا اللهم إذا كان يرى السبق إلى الوجود مدعاة للتفاخر وهو شيء لا فضل له فيه ولا يمكن أن يكون سببًا في المفاضلة، فهناك حمير كثيرون أكبر منك.. وهناك حمير أكثر أكبر مني.. ثم توالت ردود الفعل من كتاب مصر في ذلك الحين". فيقول العقاد "سلامة موسى.. لا هو أديب.. ولا هو عالم.. إنه لا يعبر إلا عن حقد.. وشعور بالفشل". أما توفيق الحكيم، فكان رده "لا تقيموا وزنًا لحكم سلامة موسى.. فقد انقطع عن القراءة منذ ربع قرن".. ويصف كامل الشناوي "سلامة موسى" قائلًا "إنه حاقد موهوب.. يعبر بسهولة عن آراء غيره.. ولا يعرف من الأدب إلا عناوين الكتب وأسماء الأدباء"..
إنني لا أذكر هذه المعركة الأدبية لأتناول تاريخ قضية صراع الأجيال، ولا لكي أدلل على أن حكاية التنابز بالألفاظ ليست صناعة حديثة بل لها جذور في تاريخ حافل بالملاسنات، ولا لكي أشير إلى أنه في أحيان كثيرة لا يتنبه المجتمع للبدايات العبقرية لبعض المبدعين مهما بلغ حجم إنجازاتهم فيسلمهم إلى غياهب النسيان.. وإن كان كل ما ذكرت تشكل ظواهر يجب أن تلفت الانتباه.. ولكن وفي حقيقة الأمر أود الإشارة إلى بعض الدلالات التالية:
أولًا: يتلاحظ بداية أن سلامة موسى وهو المفكر الكبير لا يجد غضاضة ولا يرفض أن يدلي بحديث لمجلة يرأس تحريرها ويحررها مجموعة من شباب لا يعتد بهم ويقول إنهم شباب لا يستحق إنتاجهم أن يُقرأ، وإنهم في حالة انفصال عن المجتمع.. ورغم أن مجلتهم كانت في أعدادها الأولى، وبالتالي، فإن تقييم مكانتها أو قبولها لدى النخبة والناس لم يكن معروفًا، ومع ذلك، فإن سلامة موسى لم يعتبر ذلك انتقاصًا من قدره أو ينل من اسمه.. إيمانًا بمنظور منطقي يعتمد مبدأ أن قيمة الحوار بما يدلي به وما يطرح من آراء ووجهات نظر ولا ينتظر أن تأتي القيمة من الصحيفة التي تنشر فيه..
أذكر قول المرشد العام السابق للإخوان في تعقيبه على حوار معه نشرته إحدى المجلات، ورد فعله الغاضب ودفاعه الذي لم يتناول تبريرًا لما صرح به بقدر ما تركز على أن حديثه لم يكن للنشر في تلك المجلة.. ألا يبدو ذلك عجيبًا!!!
ثانيًا: رغم ما كان لسلامة موسى من مكانة، إلا أنه عندما أبدى وجهة نظر ظالمة لجيل جديد من المبدعين وبلا منهجية نقدية لم يتردد مجتمع النخبة المثقفة في الإعلان عن الرفض.. ولم يكن هذا الرفض من وجهة نظري لما قاله فقط ولكن أيضًا رفض لوجود "تابوهات" أو بقرات مقدسة يتم عبادتها ولا يمكن الاقتراب منها.. وذلك على عكس ما شهدناه إثر حملات صحفية على كاتب كبير للتوقف عند أمور رأى محرروها أنه من الهام أن يراجع الكاتب الكبير نفسه فيها.. فانبرت بعض الأقلام ترفض الاقتراب بأي شكل من ذلك "التابوه" العتيد، فما يقول يجب ألا يُناقش باعتبار ذلك من المحرمات التي لا يجب الاقتراب منها!!
ثالثًا: إن من وصفهم سلامة موسى بالصبيان رغم إنتاجهم العبقري الذي ذكرنا جانبًا منه لم يفقدهم ثقتهم بموهبتهم، وأيضًا لم يدفعهم لتسفيه واحتقار كل إبداعات الأجيال السابقة لإظهار مدى ما أبدعوه.. بينما في عصرنا الحالي ينبري المطرب الهضبة عمرو دياب ليشن هجومًا عنيفًا على الطرب القديم ويسأل في غرور: من هو عبد الحليم حافظ.. أليس هو من غنى للسد العالي وكأنه وصمة عار على جبين المطرب، ويواصل هجومه في غرابة هل هناك مطرب في الدنيا يغني للسد العالي؟ وأنا بدوري أسأل المطرب العبقري.. إذا كنا لن نتغنى ونهتف ونفرح بإنجازات شعبنا، فبماذا نتغنى إذًا يا مطرب العذارى المتيمات.. فهل نغني معك كلمات مثل "ما بقاش فيكي شيء يغريني"؟ على اعتبار أن غريمه قذف محبوبته بوابور الجاز فشوهها فلم يعد فيها ما يغريه!! إلخ.
رابعًا: من دلالات ذلك الحدث ما كانت تشهده الساحة من مناقشات لقضايا فكرية وثقافية وينشغل بها الشارع ولا يتخلف عن المشاركة كل صاحب رأي.. كما يتبين لنا كيف كانت تُمنح الفرصة لشباب المبدعين لتقلد المناصب الصحفية الكبيرة لتحفيزهم على الإبداع وإحداث التواصل، عكس ما شهدناه في الحقب الأخيرة من استمرار قيادات ثقافية وصحفية حتى الشيخوخة في افتئات على حقوق شباب المبدعين مما أحدث فجوة في بعض المؤسسات نتيجة عدم التصعيد التدريجي وظلت للرؤساء القدامى أعمدتهم الصحفية الكبيرة وكأنه اعتذار..