بقلم: عزيز الحاج
الديمقراطية السياسية ومقولة " التطور غير الرأسمالي":
في الستينيات من القرن الماضي، روج المنظرون السوفيت لمقولة جديدة بعنوان "التطور غير الرأسمالي"، ومفادها انفتاح آفاق تطور البلدان النامية إلى الاشتراكية دون المرور بالمرحلة الرأسمالية والثورة الديمقراطية. وكان يجري التأكيد على أن العامل الأهم في انفتاح هذا الطريق الجديد للتطور هو "الدور الحاسم" للاتحاد السوفيتي و"المنظومة الاشتراكية" في التطورات الدولية، ولاسيما تأثير ذلك على حركات التطور الوطني. وكان الاستشهاد يجري بالإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية لبعض الدول العربية والإفريقية، ومنها الجزائر، وعلى الأخص في مصر الناصرية. كان يقصد بذلك بعض التأميمات، وخطوات في الإصلاح الزراعي، وتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية لصالح العمال والفلاحين. ولا شك في أن تلك الإجراءات كانت ذات طابع تقدمي، ويجب الترحيب بها وتشجيعها.
أعتقد أنه كانت وراء ذلك التنظير عن الطريق غير الرأسمالي اعتبارات وحسابات سياسية سوفيتية، حيث كانت للبلدان المعنية علاقات وثيقة بالاتحاد السوفيتي، وكان من مصلحة السوفيت إستراتيجيا انخراط بلدان نامية أخرى في ذلك المسار.
لم أكن في ذلك الوقت قد توصلت لقناعة بتخطئة المقولة المذكورة نظريا، والتي حلت محل ما كان سائدا في الحركة الشيوعية العالمية عن وجود مرحلتي تطور هما مرحلة الثورة الديمقراطية وتليها مرحلة الثورة الاشتراكية. والآن جاءت، فيما يخص البلدان النامية، مقولة مرحلة التطور غير الرأسمالي، التي تمهد بدورها للانتقال للاشتراكية.
عندما انقلب عبد الالسلام عارف على البعث وحرسه القومي في نوفمبر 1963، وحل الحرس القومي، وكشف عن بعض جرائمهم، قام، في الوقت نفسه، بإبرام اتفاقية " التنسيق" مع مصر الناصرية، وببعض التأميمات الجزئية، وأسس حزبا باسم الاتحاد الاشتراكي على منوال التنظيم الناصري.
بالطبع كان يجب النظر بإيجابية للخطوات الاقتصادية وضرب البعث، وعدم اتخاذ موقف متوتر ومتشنج من النظام الجديد، كرفع شعار إسقاطه فورا. هذا صحيح. غير أن ما حدث أيضا هو أن السوفيت اعتبروا أن تلك الإجراءات جعلت العراق مرشحا فعلا للسير في طريق النظام غير الرأسمالي، ومن ثم انفتاح الطريق نحو الانتقال نحو الاشتراكية، وأن من مصلحة الحزب الشيوعي العراقي التضامن الإستراتيجي مع النظام، وخصوصا وهو في معاهدة مع مصر الناصرية- الحليف الأكبر في المنطقة للاتحاد السوفيتي- والعمل من داخل الاتحاد الاشتراكي العارفي، أسوة بما فعل الشيوعيون المصريون [أي حل الحزب]. ومثلا، نشرت مجلة "نيوتايمس" السوفيتية أن "الاتحاد الاشتراكي العربي [أي العراقي] أصبح مركز جذب جميع القوى الثورية في البلاد".
وكتبت المحللة عليخانوفا: "إن وسائل الإنتاج أصبحت في خدمة الشعب"، وإن سياسة الحكم "ستشجع النهوض الصناعي في البلاد ورخاء الشعب بمجموعه." وقد ساجلت هؤلاء والآراء المماثلة في دراستي التي نشرتها في براغ بتاريخ أواخر شباط 1965 بعنوان "حول التطور غير الرأسمالي في العراق".
كنت معارضا بشدة لما بني على تلك التقديرات في قيادة الحزب الشيوعي العراقي في الخارج، وهو ما عرف باسم خط آب [1964]، رغم أنني وقعت في خطأ التشدد والتطرف التكتيكيين بالدعوة الفورية لإسقاط النظام الجديد واعتباره مجرد امتداد للانقلاب الشباطي البعثي.
لقد ناقشت هكذا: كيف يمكن اعتبار نظام عسكري غير ديمقراطي، وطائفي، نظاما يسير في طريق اللارأسمالية، السائرة بدورها نحو الاشتراكية؟ لماذا تجاهل دور وأهمية الديمقراطية السياسية، سواء في مصر أو في العراق؟ النظام الناصري اتخذ خطوات اجتماعية واقتصادية تقدمية، ولكنه حل الأحزاب السياسية، وفتح المعتقلات، واستخدم التعذيب الذي راح بسببه مناضلون شهداء. ثم كيف يمكن اعتبار العامل الخارجي، أي ما دعي بـ"الدور الحاسم" للمنظومة الاشتراكية، هو العامل الأول والرئيسي في التحولات الثورية عندنا أو في دول نامية أخرى؟ وكتبت في دراستي مارة الذكر:
" كيف يمكن الحديث جديا عن توفر الظروف الفعلية الآن للسير في طريق التطور غير الرأسمالي مع سياسة الاستبداد السياسي، ومعاداة الشعب الكردي، والنهج الطائفي؟ كيف يمكن لحكم عسكري يميني أن يقود البلاد في التطور غير الرأسمالي؟ وإلى جانب الاستبداد والمشكلة الكردية، هناك نصف مليون بيت فلاحي دون أرض، والإصلاح الزراعي مشلول. وتطبيق قانون شركة النفط الوطنية راكد عمليا، ولم تعد الأراضي غير المستثمرة حكرا للشركة الوطنية كما ينص على ذلك القانون القديم...." وذكرت أيضا:
" أما التأميمات التي جرت، فإن مجموع الرأسمال الاسمي لا يتجاوز 25 مليون دينارا في حين أن الرأسمال الفعلي [المتبقي] هو دون ذلك بكثير- هذا فضلا عن أن كثيرا من المشاريع المؤممة [باستثناء المصارف وشركات التأمين وبعض الصناعات] تعود لمستثمرين من البورجوازية المتوسطة التي يجب أن تلعب دورها في هذه المرحلة من تطوير الاقتصاد الوطني، ويجب أن تشجع من جانب الدولة في حدود وإطارات مرسومة. وإلى جانب ذلك، هناك الجهاز الحكومي المتفسخ والييروقراطي، المعادي بطبيعته لكل إصلاح تقدمي، والذي يستطيع عرقلة تنفيذ لأية إجراءات تقدمية. فكيف يمكن، من دون توفر الحياة الديمقراطية البرلمانية السليمة، أن تسير البلاد في الطريق غير الرأسمالي؟ إن منير أحمد [ملاحظة هو توقيع لبهاء نوري في مقاله بالمجلة الشيوعية الدولية – ع] يقلب المسألة رأسا على عقب، وهو كما يقال "يضع العربة قبل الحصان، عندما يلخص أفكاره كالتالي:" إن الطريق غير الرأسمالي هو الطريق المؤدي إلى عراق مرفه وديمقراطي"، أي يفترض قيام التطور غير الرأسمالي أولا، ومن ثم تحقيق الديمقراطية في النهاية.
وهو بذلك يردد مفاهيم مماثلة لمفاهيم القوميين الخاطئة التي كافحها حزبنا فكريا وبصرامة وجرأة بعد ثورة 14 تموز"[ص 16-17 من دراسة الحاج "حول التطور غير الرأسمالي في العراق"- منشورات الغد- أواخر شباط 1965- براغ]. وكنت قد ناقشت في محاضرتي لشهر ديسمبر 1958 في قاعة الشعب ببغداد المفاهيم والمقولات الناصرية ضد الديمقراطية السياسية بحجة العدالة الاجتماعية أولا. ونعرف كيف تحولت الإجراءات الناصرية في المجال الاقتصادي، وبغياب الديمقراطية والرقابة الشعبية، إلى هيمنة البيروقراطية العسكرية على كل مناحي الحياة، وإلى انتشار الفساد، والنخر البطيء لكن المستمر في التدابير الاجتماعية الجيدة لصالح الجماهير الشعبية.
وقد ناقشت في كراسي عن التطور غير الرأسمالي خطيئة تضخيم الدور والعامل الخارجيين على حساب العوامل الداخلية، الذاتية للتغيير الثوري. ومما كتبته:
"بالطبع لا يمكن، ولا يجب الفصل بين العوامل الموضوعية والعوامل الذاتية،... فبعد نضوج الظروف والعوامل الموضوعية المساعدة، يصبح نشاط الجماهير وطلائعها هو العامل الحاسم في الانتصار. فالثورة، أية ثورة، هي صنع الجماهير، والجماهير هي التي تصنع التاريخ" [ص14].
هذه القضايا السياسية والمبدئية كانت هي محور السجال الحامي في قيادة الحزب الشيوعي في الخارج منذ منتصف آب 1964، وخصوصا الدعوة للانضمام للاتحاد الاشتراكي على لسان دعاة خط آب في براغ، وفي نشرة داخلية صدرت عن مركز الحزب في بغداد. وكما ذكرت سابقا، فإن الحزب انقلب رسميا على هذا الخط في أواخر 1965 تقريبا بعد أن ترك جراحا داخلية وتوترات وتشنجات. وكما كتبت مرارا، فإن معارضي هذا الخط كانوا مصيبين من وجهة نظر المبادئ الأساسية اللينينية، ومخطئين متشددين في التكتيك السياسي، لافتقادهم للمرونة السياسية. وعلى كل، كان هذا فهمي لمعاني ومضامين التحولات الثورية عهد ذاك، ولمفهوم الاشتراكية بالذات، والتي اعتبرها اليوم- في ظل العولمة واقتصاد السوق، وبعد فشل التجربة السوفيتية وأخواتها- تعني ضمان العدالة الاجتماعية للمواطنين مقرونة بالديمقراطية السياسية البرلمانية وحقوق الإنسان. وأرى أن الدول الغربية، وخصوصا الشمالية، قد حققت الكثير مما كنا نطلبه من شعار الاشتراكية. كما أضيف أننا اليوم صرنا في أوضاع دولية جديدة تزايد فيها دور العامل الخارجي عن ذي قبل، ولكن التحولات الديمقراطية الثورية لا يمكن تحقيقها بدون توفر مناخ وظروف داخلية مناسبة ولاسيما وجود ممارسات وتقاليد ديمقراطية لهذا الحد أو ذاك وثقافة منفتحة لا منغلقة ومتخلفة. وفي دول "الربيع العربي" أدلة على هذا، فالانتفاضات التي جرت بلا تدخل خارجي مباشر كما في تونس ومصر واليمن، وتلك التي لعب فيها التدخل الخارجي [الأطلسي] الدور الحاسم كما في ليبيا، لا تبشر بأفق ديمقراطي حقيقي. وأما حالة العراق، التي لعب فيها العامل الخارجي المباشر دوره الحاسم فهي لا تحتاج إلى وقفة طويلة!
في 14 أكتوبر 2012
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ملحق 1 – عندما عدت للعراق في حوالي ديسمبر 1966 وانتخبت في شباط 1967 عضوا في المكتب السياسي بعد أن كنت مرشحا للجنة المركزية، عهدت لي بمهام الإشراف على لجنة تنظيمات بغداد التي كانت تفور، وعلى العلاقات الوطنية[ ليس على النشاط الإعلامي والنشر والطباعة الذي كانت من مسؤولية عامر عبد الله]، كانت بادكورة لقاءاتي الوطنية باسم الحزب الشيوعي لقاءا، بصحبة ماجد عبد الرضا، مع الراحل محمد حديد للبحث عن سبل التعاون والتنسيق. وكان الملفت إلحاحه أكثر من مرة على موقف الشيوعيين من موضوع الديمقراطية برغم تأكيدي له بأن الحزب عاد للتركيز على أهميته. طبعا كان في باله انعطاف 1964 بعيدا عن الهم الديمقراطي. وقبله في براغ كتب الراحل عبد الفتاح إبراهيم رسالة نقد شديد أرسلت لقيادة تنظيمات الخارج الشيوعية حول ذلك الانعطاف الذي كان مخالفا لسياسات الحزب الشيوعي على مدى عقود من السنين. أما جواب الرسالة فكان تبريراً للخط الجديد ودفاعاُ شرساً عنه.
[ ملحق2 : "في مقالتي قبل أقل من عام عن "حنا بطاطو والحركة الشيوعية العراقية" أوردت كيف أخطا في تشخيص الأسماء الحركية للمجتمعين في براغ وهم يناقشون السياسات الحزبية في نوفمبر عام 1965. فقد نقل الخطأ عن وثائق الأمن العراقي في مجلدات "أضواء على الحركة الشيوعية في العراق" بقلم مالك سيف ومشاركة وإشراف فاضل البراك، مدير الأمن العام، الذي قتله صدام فيما بعد.
الخلط يربك القارئ لأنه يحول المدافع عن آب إلى معارض، والعكس بالعكس. مثلا إن الاسم الحركي "دحام" هو للراحل رحيم عجينة، المعارض للخط، لا لمهدي عبد الكريم المؤيد. و[صابر] هو للمعارض نوري عبد الرزاق لا لأحد أقطاب الخط، باقر إبراهيم. كما هناك التباسات أخرى بين أسماء قادة الخط أنفسهم .
****
[ ملحق 3 – كان من المفترض وصولي سرا للعراق من الحدود السورية في حوالي منتصف سبتمبر1966 . ولكنني بقيت في دمشق ثلاثة شهور بانتظار الأدلاء الاكراد العراقيين، الذين كان مقررا إرسالهم لي من كردستان لعبور النهر نحو جبال كردستان. وتبين أن التأخير كان متعمدا من مسؤول تنظيمات الحزب في الإقليم السيد بهاء الدين نوري، الذي كان الوحيد المعارض لانتخابي في المكتب السياسي. وقد حوسب على ذلك في اجتماع اللجنة المركزية. أما فيما بعد، فقد كتب أن عزيز الحاج كان مترددا في العودة!! وهكذا يكون السرد النزيه للأحداث من جانب البعض! فلا عجب أن يأتي من كان هو مرشده وصنيعته ليهذي بسلسلة حكايات افتراء وتزوير للتاريخ في موقع قوماني – إسلاموي تموله قطر .
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع