في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين حصل الكاتب المسرحي سعد الدين وهبة (1925 – 1997) علي جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وكلفني رئيس تحرير مجلة " القاهرة " وقتئذ المرحوم الدكتور إيراهيم حمادة (صاحب أهم دراسة وتحقيق عن "خيال الظل وتمثيليات ابن دانيال ") بإجراء (حوار صحفي) حول " واقع الثقافة المصرية ومستقبلها ". توجهت إلي فندق " ماريوت " (عمر الخيام سابقا) في حي الزمالك الراقي المطل علي نيل القاهرة لمقابلته، حيث كانت تجري وقائع مهرجان القاهرة السينمائي الدولي والذي ترأسه " وهبة " لسنوات طويلة.
 

بعد انتظار دام ساعتين قابلني معتذرا، قال: أنا تعمدت تأخير اللقاء حتي أفرغ من التفاهات (الحديث عن المهرجان للصحافيين) وأتفرغ لك ولصديق العمر الدكتور حمادة.قلت مبتسما كان الله في العون وألف مبروك علي الجائزة التي تشرفت بحصول صاحب " سكة السلامة " و" السبنسة " و" يا سلام سلم الحيطة بتتكلم " و" كفر البطيخ " و" كوبري الناموس " عليها.أكفهر وجهه وهو يقول في حزن: "يا خسارة يا مصر" لن تعود القيادة الثقافية إليها مرة أخري.
 

 لماذا؟.. قال: ما سأقوله لك (خارج النشر).. لقد أصبح دور مصر بعد " كامب ديفيد " 1979 منحصرا في "التهريج الثقافي" وليس "الانتاج الثقافي"، وهو ما نطلق عليه تأدبا "المهرجانات" الثقافية: مهرجان القاهرة السينمائي، مهرجان المسرح التجريبي، مهرجان الرقص الشعبي، معرض القاهرة الدولي للكتاب.... إلي آخر هذه الأنشطة التي تقوم بها وزارة الثقافة بإنتظام تحسد عليه، وربما كان الزخم الثقافي في عقد الستينيات هو آخر علاقة لنا كمصريين  بالإبداع الثقافي والانتاج الحقيقي في السينما والمسرح والرواية والشعر.
 

تذكرت عبارة " التهريج الثقافي " بعد عشرين عاما تقريبا وأنا أتناول الغذاء علي أجمل شواطئ "الغردقة" بالبحر الأحمر، برفقة الصديق الدكتور وحيد عبدالمجيد الكاتب والخبير الاستراتيجي بمركز الأهرام والمتحدث حاليا بإسم " الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور "، حيث كنا نشارك سويا في لقاء نظمته الهيئة القبطية الإنجيلية حول " المواطنة "، سألته (وكان وقتئذ " مسئول النشر " ونائب رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب) عن حال الانتاج الثقافي في الهيئة مقارنة بدور النشر الخاصة، قال: حجم الانتاج الثقافي لا يتجاوز (تسعة آلاف كتابا) في العام وأن ما يستحق القراءة بالفعل لا يزيد عن تسعين كتابا، وأن المشكلة التي تواجه المسئولين عن النشر في مصر، هي: (ضعف الانتاج) كما وكيفا (ضحالة الإبداع) مقارنة بعدد السكان (90 مليون نسمة) وهذه " كارثة " لا يتحدث عنها أحد من المسئولين أو المثقفين، لأن " حائط الصد الأول " وهو " الثقافة " أو ما نسميه بالقوة الناعمة (هزيل للغاية) وعند أول هزة أرضية سيسقط من تلقاء نفسه، (وقد كان بعد 25 يناير 2011).
 

تشاؤم سعد الدين وهبة من مستقبل الثقافة في مصر بعد " كامب ديفيد "، جعل همه الأول هو محاربة " التطبيع " مع اسرائيل في مقالاته الأسبوعية بجريدة الأهرام حتي وفاته في 11 نوفمبر 1997، أما " واقعية " الصديق وحيد عبدالمجيد فهي التي مكنته – أكثر من جميع الأعضاء - من رؤية ما هو أعمق من مجرد صياغة هذه المادة أو تلك في الدستور الجديد المتنازع عليه، فهو يتحدث من داخل المطبخ (السياسي – الثقافي) وليس من خارجه أو من خلاصات نظرية لا تسمن ولا تغني.
 

الحلقة المفقودة التي تجمع أو تفصل بين " وهبة " و" عبدالمجيد " – في تصوري - هي " طه حسين " (1889 – 1973) الغائب الحاضر دائما، فقد كانت القضية المحورية لكتابه " مستقبل الثقافة في مصر " عام 1938 هي " التعليم " بينما عنون الكتاب ب" مستقبل الثقافة " ليؤكد علي أن وظيفة التعليم الأساسية هي إعداد الفرد ليكون مواطنا (مثقفا) يتعامل بوعي مع ثقافة عصره ويجابه بمرونة واقتدار تحدياته وآفاقه، ولأن مصر خسرت " معركة التعليم " بعد هزيمة 1967 لصالح الأصولية الدينية فإن أي حديث عن " الثقافة " لا معني له!
 

المفاجأة، أن " دستور 1923 " الذي جاء في أعقاب ثورة 1919 (وشعارها الدين لله والوطن للجميع) وسعي إلي تكريس فكرة (مدنية الدولة الحديثة) - التي يتباكي عليها العلمانيون والليبراليون واليساريون اليوم 2012 - هاجمه " طه حسين " بعنف بسبب المادة (149) التي نصت علي أن: " الإسلام دين الدولة "، ولم يرهب أو يتردد بعد معركته غير المتكافئة مع المشايخ والأصوليين حول كتابه " في الشعر الجاهلي " 1926، وإنما كتب مقالا في مجلة الحديث (فبراير 1927) قال فيه: أن النص في الدستور علي أن الإسلام دين الدولة، مصدر فرقة، لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين فقط من أهل مصر، وإنما نقول أنه كان مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم، فهم لم يفهموه علي وجه واحد. وأن النص علي دين الدولة يتناقض مع حرية الاعتقاد.(طه حسين:  من بعيد، الشركة العربية للطباعة والنشر ، الطبعة الثانية نوفمبر 1958- ص 232 وما بعدها).
 

dressamabdalla@yahoo.com

نقلاً عن إيلاف