محمد يونس
في شبابي .. كان عدد سكان مصر 18 مليون شخص ..و كانت مدينة القاهرة '> القاهرة .. محدودة المساحة تنتهي عند العباسية أو شبرا أو الدقي ..و الزمالك .. و كان الذهاب لما بعد ذلك يعتبر سفر .. إلي مصر الجديدة أوالمقطم أو حلوان و المعادى أو حديقة الحيوانات أو الهرم ..
و كنت أسكن في نصف البلد ( السكاكيني ) أستطيع أن أذهب إلي اقصي مكان في المدينة مشيا علي الأقدام .
مدينتنا كانت جميلة و لها خصوصة و رائحة مميزة .. فحول المنازل حدائق .. تأتي منها رائحة الفل و الياسمين في الغروب .. ثم فوانيس تضاء بالغاز علي أعمدة من زمن ( ارت نوفو) في الشوارع الضيقة الرطبة ذات المباني المنخفضة التي تسمح لك برؤية القمر بدر ينير أسطح البيوت ..
صوت الضفادع في الحدائق .. مختلطة بأغنية لام كلثوم مذاعة من راديو بعيد .. أو دقات البيانو .. و نغمات الكمان ..و ضحكة سيدة من القلب تأتي من المنازل الساهرة .. تكون سيموفونية شديدة العذوبة
كنت قبل الفجر .. أذهب ماشيا من شوارع الحسينية الضيقة التي تحمل رائحة التاريخ و العطارة إلي جامع الحسين .. أستمع لتواشيح بصوت جميل .. تعقبها أدعية .. فأذان الفجر يغسل الروح من الداخل و يطفر الدموع من العيون ..
ثم أسير عائدا بعد صلاة الفجر ..من شارع مصنع الطرابيش أمر علي مدرسة اليهود و ميدان الحسينية فأجدة مستيقظا .. خادما يقدم للناس اللبن و الزبادى .. و الحلوى .. بجوار الفول و الطعمية ..و العيش المفقع المستوى
و مع أشعة الشمس الأولي يكتسب المكان جلالا .. و جمالا .. لا ينسي
أحب القاهرة '> القاهرة قبل أن تغتصب ..و تمتليء بالقذارة .. و العمارات الشاهقة .. و كلاكسات العربات .. و الشوارع المكسرة ..و رائحة التراب .. و الكلاب الضالة .. و البؤساء يلتفون حول صناديق القمامة يبحثون عن إفطار .