فاطمة ناعوت

ها قد دخلنا فى العشر الأواخر من شهر رمضان المعظم ونستعدُّ لاستقبال ليلة القدر المباركة ثم عيد الفطر المبارك، وكذلك دخل أشقاؤنا المسيحيون أسبوعَ الآلام ويستعدون لاستقبال عيد القيامة المجيد، أعاد اللهُ علينا أعيادَنا والبشرية فى سلام ومصرُ وشعبُها «القوى» فى رباط لا تُفصَم عُروتُه الوُثقى. وقد استخدمتُ تعبير: «الشعب القوى» لأن الشعوبَ تقوى، ليس فقط بجيوشها القوية واقتصادها القوى، بل كذلك بثقافة شعبها وتضامّه ووحدته. فإذا أردتَ أن تُسقط دولةً، ليس عليك إلا أن تُفتّت أوصالَ شعبها وتُضعف عُرى روابطِه، فيتصدّعُ نسيجُ تلك الدولة، وتنهارُ من تلقاء ذاتها، دونما الحاجة إلى قنبلة نووية أو اجتياح عسكرى. وهذا بالضبط ما حاوله أعداءُ مصر، من خارجها وداخلها، مئات المرات عن طريق غرس بذور الفتن وزرع هالوك الشقاق الطائفى فى أرضنا الطيبة. لكن طمى مصر الطاهر كان دومًا، وسوف يظلُّ، عصيًّا على إخصاب تلك البذور المسمومة، فتموتُ براعمُها فى مهدها المظلم. لهذا أقولُ إن شعب مصرَ «قوى»، لأنه عصىُ على التصدّع رغم المحاولات الحثيثة لنصال الإرهاب والتطرف الحادّة التى ضربت خصرَ مصرَ فى لحظات كثيرة مضت، وحتى وقت قريب، لكن مصرَ بجيشها العظيم، وجهازها الأمنى اليقظ، وشعبها «القوى الذكى» كانت تردُّ عنها تلك النصالَ إلى نحورِ أعدائها، وتقتل أفعى الشقاق كلما طلّت برأسها الملعون. آلافُ المواقف والوقائع تُدلّلُ على تلك الحقيقة التى لن تتغير أبدًا بإذن الله: «أننا شعبٌ قويٌّ متيٌن متماسكٌ لا تنفصمُ عُراه”. وقبل أن تنقضى أيامُ الشهر الفضيل دعونى أكتب لكم واحدةً من أجمل التغريدات التى قرأتُها على سوشيال ميديا خلال شهر رمضان الكريم

كتب أحدُهم مازحًا تغريدةً مرحةً تقول: «لو أعداء مصر فكروا يحتلّوا مصر دون مقاومة، مش هيلاقوا أحسن من رمضان لحظة الفطار مع أذان المغرب»، ويقصد بالطبع انشغالنا، نحن الشعب المصرى بلحظة الإفطار الجميلة واجتماعنا على مائدة طعام واحدة فى لحظة واحدة وخلو الشوارع من الناس تقريبًا. فجاء الردُّ المبهر على تلك التغريدة من المهندس/ «نجيب ساويرس»، الذى كتب يقول: «متقلقش، افطروا وانتو مطمئنين، إحنا موجودين نحمى الوطن!». وتحت قشرة المرح المازح فى التعليق، تكمنُ فى العمق «الحدوتةُ المصرية الجميلة» التى تقول إن مصرَ دولةٌ قوية، ليس وحسب بجيشها وقيادتها، بل كذلك بشعبها الجميل الذى يثبتُ طوال الوقت فى الأزمات والمحن أنه عصىُ على الشتات. حاولوا أن ترسموا فى أذهانكم تلك الصورة الافتراضية التى رسمتها التغريدةُ والتعليقُ عليها. التغريدةُ رسمت صورة خيالية تصوّر لحظة اجتياح يغزو فيها العدوُّ أرضَنا، وهذا مستحيلٌ لأن جيشنا على الجبهات يقظٌ وفى قمة الجاهزية طوال الوقت، ثم جاء التعليقُ ليُكمل رسمَ الصورة الخيالية بأن ملايين المصريين المسيحيين يخرجون أفواجًا يدفعون الخطرَ عن مصر ويحمون ظهور أشقائهم المسلمين وهم يُصلّون المغرب فى رمضان!.

لكن الصورة الكاريكاتورية التى رسمتها التغريدةُ والتعليق، حدثت أصداءٌ حقيقيةٌ لها على أرض الواقع فى عديد المواقف الصعبة التى مرّت بها مصرُ. فمستحيلُ أن ننسى لحظات ثوراتنا فى الميادين والشوارع حين كنا نصلّى ويصنعُ أشقاؤنا المسيحيون دروعًا بشرية تحمى ظهورنا، ومستحيلٌ أن أنسى أننى كسرتُ صيامى على منصّة الاتحادية فى رمضان ٢٠١٣ أثناء ثورة يونيو الشريفة على «تمرة» قدمتها لى صَبيةٌ مسيحيةٌ، ومستحيلٌ أن ننسى أن المسلمين الشرفاء أحاطوا بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية يحمونها حين حاول الإخوان الإرهابيون اجتياح المقر البابوى عام ٢٠١٢، ولن ننسى أن «قداسة البابا شنودة»، رحمه الله، بعد تلك الواقعة امتصَّ غضبةَ أبنائه المسيحيين بإلقاء عِظة واعية عنوانها: «اغفروا»، ربما لولاها لحدثت فتنةٌ طائفيةٌ مريرة، لا سمح الله بها، وحدث الشىء نفسُه فى ثمانينيات القرن الماضى حين لاحت فى سماء مصر بوادرُ فتن طائفية إثر وقائع إرهابية افتعلها متطرفون لشق الصف المصرى وزرع الشتات بين المسلمين والمسيحيين، فإذا بقداسة «البابا شنودة الثالث» يُلقى كلمة لأبنائه المسيحيين يقول فيها: (مثلما أنا مستعدٌّ لأن أبذل حياتى من أجل أى واحد منكم، فإننى مستعد لبذل حياتى من أجل أى مسلم فى هذا البلد. إن الحبَّ الذى فينا لا يعرفُ تعصّبًا ولا تفريقًا، فنحن إخوةٌ فى هذا الوطن. ونحن جميعًا مستعدون لبذل أنفسنا من أجل كلّ ذرة تراب فى مصر. نحن لا نعرف سوى الحب). وليتَ المقالَ من مليون كلمة لأحكى مئات الوقائع التى كتبها التاريخُ تؤكدُ أننا شعبٌ قوىُ عصىُ على التصدع. كلُّ عام والمصريون أقوياءُ باتحادهم.

نفلا عن المصرى اليوم