لفت نظرى، فى اليوم الأخير لزيارتى لفرنسا، اهتمام وسائل الإعلام الفرنسية، أمس السبت، بمراسم تنصيب تشارلز ملكًا رسميًّا وشرعيًّا لبريطانيا، ونقلها على الهواء مباشرة، وهى الاحتفالية التى حضرها الرئيس الفرنسى ماكرون مع زوجته والمئات من قادة العالم.
والحقيقة أن هذه المراسم تحولت إلى «حديث المدينة»، وولع الجمهورية الفرنسية بالملكية البريطانية واضح بالاهتمام طوال عقود طويلة بأخبار الملكة الراحلة (إليزابيث)، ومعها الأمير تشارلز وكل أفراد الأسرة المالكة، فكثيرا ما جاءت أخبارهم وتفاصيل حياتهم فى عناوين الصحف، وكثيرًا ما ناقش الكُتاب والباحثون ظاهرة الحنين الفرنسى إلى الملكية، دون أن يعنى ذلك أن هناك تيارًا سياسيًّا مؤثرًا قادرًا على عودة الملكية إلى البلاد، أو تحويلها حتى إلى مجرد خيار سياسى.
النموذج الفرنسى نموذج ثورى أعدم الملك والملكة عقب قيام الثورة الفرنسية فى ١٧٨٩ ودخل فى مسار سياسى عاد فيه إلى الملكية الإمبراطورية، وسقط فيه آلاف الضحايا حتى أسس جمهورية قوية راسخة، صحيح أنها عرفت حنينًا لعراقة الملكية، إلا أنها لم تعتمدها كخيار سياسى يمكن أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، إنما اكتفت بـ«الحنين والإعجاب».
أما فى بريطانيا، مثل ملكيات دستورية كثيرة، ينظر إلى السلطة الملكية باعتبارها «فوق السلطة» الحاكمة، تتسع فيها صلاحيات الملك فى وقت الأزمات والحروب الكبرى، وهو ضامن للنظام القائم من انحراف الحكومة والسلطة التنفيذية، وأن الوصول إلى صيغة «الملكية الضامنة» التى لا تحكم كانت نتاج تراكم طويل لم تعرفه كثير من النظم الملكية فى العالم، فلنا أن نتصور أن بريطانيا عرفت بدايات التراكم فى اتجاه بناء دولة القانون والملكية الدستورية عقب صدور «الماجنا كارتا» أو الميثاق الأعظم، فى 1216، وطالبت الملك بأن يمنح حريات للشعب، وأن يقبل بأن تصبح حريته غير مطلقة، ووضعت أساس الملكية الدستورية.
وقد تحول هذا النص إلى قانون فى عام 1225، ثم أصبح بعد ذلك ضمن كتب لوائح الأنظمة الداخلية لإنجلترا وويلز حتى الآن.
ورغم «بريق الهدوء» الذى ظهرت عليه الخبرة البريطانية والتراكم التاريخى المتدرج، إلا أنها أعدمت ملكها تشارلز الأول بقطع رأسه فى ٣٠ يناير ١٦٤٩ أى بعد قرون من «الماجنا كارتا»، واعتبرها كثيرون نقطة سوداء فى التاريخ السياسى البريطانى، إلا أنها لم تؤد إلى تحول بريطانيا نحو النظام الجمهورى كما فعلت فرنسا، إنما جعلتهم يتمسكون بالتحول التدريجى نحو النظام الملكى الدستورى الذى يحدد صلاحيات الملك فى جوانب محدودة، ويكون رمزا للأمة وموحدا لها ويتمتع بحضور روحى وثقافى بصورة عابرة للانقسامات الحزبية والخلافات الأيديولوجية.
سيبقى الاهتمام الفرنسى بالملكية البريطانية لافتا، لكنه اهتمام لا يصل لخيار سياسى، لأن كلا البلدين حافظا على خبرتيهما التاريخية والثقافية الخاصة بهما، وظلا نموذجين متنافسين فى أوروبا، ولكل منهما بريقه وحضوره.
نقلا عن المصري اليوم