فى اعتقادى أن المشكلة الأولى التى نواجهها الآن ومنذ عدة عقود، هى ابتعادنا المتواصل عن ثقافة العصر الذى نعيش فيه. ومن هنا شعورنا الراهن بالاغتراب والتخبط وفقدان الهوية، وعجزنا عن أن نوفر لأنفسنا شروط الحياة الكريمة، ومحاولاتنا الدائبة للهروب والهجرة إما لبلاد أخرى، وإما لعصور أخرى نحلم بالعودة إليها، ونرسم لها صوراً أسطورية نلوذ بها من قسوة الواقع الذى نعيش فيه!.
مشكلتنا الأولى تتمثل فى الثقافة السائدة التى لا نستطيع بها أن نرى الواقع أو نتوقع المستقبل أو نواجه أخطاءنا وعيوبنا، ونعرف أسباب تخلفنا ونتخلص منها.
والثقافة التى أتحدث عنها ليست معلومات جاهزة محفوظة نلجأ إليها كلما احتجنا إلى وصفة أو حل. وإنما الثقافة هى الحياة بروح متحررة وعقل واثق متفتح باحث عما يقنع الإنسان ويلبى حاجاته ويشعره بأنه فى مكانه وزمانه.
كل نشاط يقوم به الإنسان هو فى حقيقته ثقافة. إذا فكر وإذا عبر، وإذا اتصل وإذا انفصل، وإذا تحرك وإذا توقف، وإذا اشتغل وإذا استراح.
الإنسان لا يكون إنساناً إلا بالثقافة. لأن الإنسان حيوان عاقل أو مثقف، فإذا افتقر للثقافة رجع القهقرى إلى حيث كان فى قديم الزمان وعاد حيواناً لا أكثر. وكما أن اليد التى تعمل لا تستغنى عن التفكير، فالعقل الذى يفكر لا يستغنى عن العمل. والثقافة إذن ليست مهنة تختص بها جماعة بذاتها، ولكنها نشاط مشترك يأخذ كل منا بنصيب فيه.
ولأن الثقافة هى ما نمارسه من عمل وما نستخلصه من نتائج ونحتفظ به من معارف وما نسعى لتحقيقه وما نحلم به، فالثقافة خبرات تتراكم وتتفاعل وتتقدم بتقدم الزمن وتتطور بتطور الحياة الإنسانية، وإلا تحجرت وفسدت وتحولت من معرفة إلى جهالة، ومن فضاء مفتوح إلى سجن ضيق.
لا نستطيع أن نعيش فى هذا القرن الحادى والعشرين أو نواجه معضلاته ونجيب عن أسئلته بما ورثناه من ثقافة العصور الماضية، فليس الزمان وحده الذى تغير، وإنما تغير كل شىء. الزمان والمكان والعالم، والكون كله تغير، وتفجرت فيه قوى كانت ساكنة، وظهرت أشياء وانكشفت أسرار. وكما تغير العالم تغيرنا. فالعالم يفعل فينا ونحن نفعل فيه، نغيره ويغيرنا من داخلنا وخارجنا، وهكذا تتغير الثقافة وتتطور.
فى الماضى لم نكن نفهم من الحرية إلا أنها نقيض العبودية. فإذا لم يكن الرجل عبداً مملوكاً لغيره فهو حر. وقد أصبح هذا الفهم قاصراً ومضللاً. لأن الرق بصورته القديمة اختفى ولم يعد فى وسع إنسان أن يذهب إلى السوق ليشترى عبداً أو جارية، كما كان يحدث إلى أواسط القرن الأسبق، ومع هذا فالملايين من البشر لا يزالون عبيداً حتى الآن، لأن الحياة فى الفقر عبودية، وفى الجهل عبودية، وفى الطغيان عبودية. ولأن الحرية لم تعد مجرد انتفاء للرق، وإنما الحرية الآن هى امتلاك الإنسان مصيره كإنسان يختار لنفسه ولجماعته، فلابد أن يتحرر من الفقر والقهر والخوف والجهل ليمتلك نفسه، ويختار حكومته، ويفكر بحرية ويعبر بحرية. وكل قيد يحول بينه وبين حق من هذه الحقوق طغيان. والطغيان عبودية.
وفى الحوار الذى دار بين أحمد عرابى والخديو توفيق تجسيد لهذا المعنى. فالخديو يرى نفسه سيداً للمصريين ويرى المصريين «عبيداً لإحساناته». وعرابى يرده للصواب ويقول له «لقد خلقنا الله أحراراً، ولن نستعبد بعد اليوم»!
ونحن الآن نتحدث عن الديمقراطية التى يظن الكثيرون أنها نشاط يعتمد على الحشد والإثارة والتهييج ولا يهمنا منه إلا نتائجه الملموسة المباشرة.
غير أن الديمقراطية قبل كل شىء ثقافة متعددة الوجوه. فهى سياسة وتاريخ، وهى تجارب عنيفة أحياناً وهادئة أحياناً أخرى، وهى أيضاً فلسفة ومدن فاضلة، وهى الحرية حين تمارسها المدينة أو الأمة الحرة التى تحكم نفسها بنفسها.
هذه الثقافة لا نكاد نجد لها أثراً ونحن نتحدث الآن عن الديمقراطية فنختزلها فى الانتخابات التى جرت بالفعل وشهد الكثيرون بنزاهتها التى لا نستطيع أن ننفيها وإن كان من حقنا أن نعتبرها شكلا لا روح فيه، لأن هذه الانتخابات لم تحقق لنا الديمقراطية، بل أبعدتها وحلت محلها.
ولاشك فى أن الانتخابات طريق إلى الديمقراطية، لكن الديمقراطية لا تمارس بالانتخابات وحدها، بل تمارس كذلك بالنشاط الحزبى، والصحافة الحرة، والاجتماعات، والتظاهرات، فضلاً عن التقنيات الحديثة التى تستخدم الآن على نطاق واسع فى تحقيق التواصل والتحاور وإذاعة الأفكار ونقل المعلومات وسوى ذلك من الوسائل والطرق التى يدافع بها الشعب عن حقوقه ويفرض إرادته. فإذا كانت الانتخابات هى الوسيلة العملية لتمثيل الشعب واختيار السلطة الحاكمة فلابد أن يتوفر لها الوعى واليقظة والنزاهة حتى تحقق هدفها، وإلا فالانتخابات تتعرض للتزييف الذى كان يمارسه النظام الساقط علناً، وتمارسه السلطة الحالية بطرق أخرى يستخدم فيها الزيت والسكر والجنة والنار وسوى ذلك مما لا نستطيع مواجهته إلا بثقافة سياسية تتحول بالممارسة إلى تراث وتقاليد نتعلم منها الديمقراطية بمعناها الحق ونتعودها، ونؤمن بضرورتها وجدواها، ونميز فيها بين الشكل، والمحتوى فنحتاط للتزييف قبل أن يقع، ونكتشفه إن وقع ونرفض كل ما ينبنى عليه، وإلا فالبناء كله تزييف فى تزييف.
ونحن نسمى الأشياء بغير أسمائها، ونطلق على الأفكار والنظم التى ننقلها عن الغرب أسماء عربية فنخلط بين المحفوظ والمنقول، وبين تراث العرب وتراث غيرهم. كما يفعل دعاة الإسلام السياسى حين زعموا أن الشورى هى الديمقراطية، وأن الدولة الإسلامية الأولى التى أقامها الخلفاء الراشدون كانت ديمقراطية فسارع الكثيرون للتصديق يدفعهم لذلك إيمانهم بما فى الإسلام من قيم إنسانية- ومثل أخلاقية رفيعة تتفق مع ما فى النظم الحديثة التى تعترف بحقوق البشر وتسعى لإقرارها.
ولا يستطيع أحد أن ينكر ما فى الإسلام من قيم ومثل فهمها المسلمون الأوائل وجسدوها بما يتفق مع ظروف المكان والزمان، ويختلف بالتالى مع ما عرفته الأمم الأخرى التى عاشت فى أزمنة وأمكنه مختلفة.
فى الجزيرة العربية لم يكن منتظراً أن ينشأ فى القرن السابع الميلادى نظام كالنظام الذى نشأ فى أثينا. فالجزيرة العربية لم تظهر فيها قبل الإسلام دولة، ولم تتشكل جماعة قومية موحدة كما حدث فى أثينا منذ نهايات الألف الثانى قبل الميلاد. ونحن نعرف أن الديمقراطية كلمة يونانية مؤلفة من كلمتين تعنيان معاً حكم الشعب. فالديمقراطية هى أن يحكم الشعب نفسه بنفسه. أما الشورى فهى حكومة النخبة المؤلفة من رؤساء القبائل فى الجاهلية، وهم أهل الحل والعقد فى الإسلام الذين يحكمون نيابة عن الشعب، فإن اختلف الشعب مع حكامه ثار عليهم، كما فعل الذين ثاروا على عثمان بن عفان وقتلوه، وكما فعل الذين ثاروا على على بن أبى طالب وخرجوا عليه، واغتصبوا السلطة وحولوها إلى طغيان سافر.
والذين يخلطون بين الديمقراطية والشورى لأنهم لم يرجعوا لتاريخ الشورى أو تاريخ الديمقراطية ولم يقرأوا ما يكفى عن الجزيرة العربية أو عن اليونان وأوروبا- يخلطون بين الدولة المدنية والدولة الدينية، لأنهم يميزون الدولة بالملابس التى يرتديها الحكام بدلاً من القوانين والشرائع التى تحدد مصدر السلطة وطبيعة الدولة. وهكذا يزعمون أن الدولة الإسلامية دولة مدنية، لأن الإسلام لا يعرف السلطة الدينية التى تعرفها الديانات الأخرى، لكنه ينظم حياة الناس بما فيه من قوانين وحدود يجب أن تطبق فى الدولة لتكون دولة إسلامية دون أن تكون دولة دينية، لأن الحكام الذين يحكمون هذه الدولة ويطبقون شرائعها ليسوا رجال دين. وإذن فهى دولة مدنية! وهذا كلام غير مفهوم. فالدولة تكون دينية أو مدنية، ديمقراطية أو ديكتاتورية بالنظم والقوانين التى تحكمها وليس بأى شىء آخر. وإيران دولة دينية مع أنها إسلامية. والفاتيكان لن تتحول إلى دولة مدنية إذا غير البابا ملابسه الكهنوتية وارتدى ملابس بيرلسكونى!
والذين يخلطون بين الديمقراطية والشورى، وبين الدولة الدينية والدولة المدنية يخلطون بين الأمة والملة والطائفة، ويخلطون بين الدين والدولة، وبين القرآن والدستور. وسوف يواصلون هذا الخلط وهذا التضليل. وسوف نقف أمامهم عاجزين مترددين. نشعر بالاغتراب فى عصرنا هذا الذى نعيش فيه، ونسير فيه على غير هدى، لأننا لا نملك شيئا من ثقافته، وربما خرجنا منه لنجد أنفسنا فى إمارة من إمارات العصور البائدة!.
نقلاُ عن المصري اليوم