كمال زاخر
اهتم أبى أن يقتنى مدفناً بالجبل الأحمر، بعد استقراره بالقاهرة، ولم يَرُد من يحتاجه يوماً، أول مرة أذهب الي المدافن كانت فى وداع أحد الأقرباء، كنت صبياً وكان الحزن يلفنى، وكان صمت المكان، إلا من عويل المشيعات، يكمل المشهد المُقبض، بقيت أمام المدفن برفقة أخى الأكبر ليغلق الباب.
اقترب منا واحد من العاملين الذين تولوا عملية الدفن، وكان رجلاً قصيراً بديناً حافى القدمين، البقشيش يا بهوات!!، صدمنى الطلب فانفجرت فيه، معنفاً، جذبنى اخى وطيب خاطر الرجل الذى بدا منكسراً، ونفحه "اللى فيه النصيب" ثم التفت إلىّ عاتباً ولم يتكلم، قلت له "دا حتى لم يبد أية مشاعر حزن أو تأثر، وبيطلب بقشيش كمان... هى الدنيا جرى فيها إيه؟".
لم نكن قد ابتعدنا كثيراً عن الرجل، فإذا به يلحقنا ويقول لى "بص يابنى دا شغلى ومصدر رزقى اللى بأدبر من قروشه القليلة احتياجات بيتى واولادى، وأنا لو حزنت مع كل حالة اكيد لن اكمل يومى من فرط الحزن، وسألحق بمن ادفنهم على آخر النهار بكتيره ...وأردف "ربنا يحميك ويخليلك والديك واخواتك".!!!
ليس الاحتياج وحده هو الذى يقفز بالمرء فوق المشاعر، ويبلدها، انما الاعتياد أيضاً، حين تكون الأيام متشابهة متكررة منمطة، اللى نبات فيه نصبح فيه، وهو أمر يحدث حتى فى الأعمال والوظائف الأكثر بريقاً، عندما يغيب الشغف.
مر على هذه الواقعة اكثر من ستة عقود، لا أعرف لماذا تذكرتها اليوم؟
ربما لما تحتشد به منشورات العالم الافتراضى من خناقات تبدو اخلاقية حول الفساد هنا وهناك، الفساد والتقصير وعدم الأمانة، والمظلومية، وهى نفس الشكاوى التى سجلها الفلاح الفصيح وحملتها صلوات المعابد وجدرانها، وشكاوى البسطاء للأولياء والقديسين ، وتناولتها دراسات علم الاجتماع. وسجلها عالم الاجتماع الرائد د. سيد عويس فى كتاب "رسائل إلى الإمام الشافعي".
اللافت اننا نشكوها ونمارسها، ندين غيرنا ونبررها لأنفسنا.
وقد يكون تذكرى لها مرده تكرارها بشكل متواتر فى دواوين العمل المختلفة، بتنوع من يجلس خلف مكاتبها؛ يؤدون عملهم برتابة تقترب من الآلية وكأنهم روبوت، قد لا يكون بسبب الاحتياج بل الاعتياد، وقد يكون السبب كليهما، ربما!!.
هى حالة تصيب طيف غير قليل من الخدام الشباب والكبار ايضاً، الشماس والقس والأسقف، ربما بسبب التنشئة التى عمقت فيهم أن الخدمة هى ترتيب معلومات فى موضوع الخدمة، وتسرب الذهنية الرهبانية، للمدنيين منهم، خاصة النماذج الموغلة فى النسك والتى تحتشد بها كتب السير الرهبانية وكثيرها مفارق لواقع الحياة حتى فى قلالى الرهبان، فما بالك حياة المدينة والقرية، ليقع الشباب فى ازمة الازدواجية، وتباين الحياة فى الخدمة وخارجها.
وحين تنبههم الى ضرورة تطابق ما يقولونه مع ما يعيشونه، يستغربون بل تستغرقهم الازدواجية أكثر ويحرقون أيام شبابهم فى ما يظنونه خدمة، حتى لو انتهى الأمر الى معاداة دوائرهم الحميمة، تأسيساً على ان اعداء الانسان أهل بيته، هكذا.
وتتولد حالة ثالثة تضاف للاحتياج والاعتياد وهى الاشباع النفسى للذات والتى تتضخم مع المديح والثناء والتقريظ الذى يحاصر الخادم، خاصة مع احترافه توظيف ملكاته فى حديثه وخدمته، فتجد الشهرة طريقها اليه حتى فى دوائره المحلية، ومع كل هذا وربما نتيجة لكل هذا تتسلل الرتابة والجمود إليه وهو ما ينعكس على حياته وتعاملاته.وقد اختل توازنه - كل فى دائرته ومحيطه - فى شيزوفرينيا كارثية.
حالة تُصَوِِر لْطَيف العلمانيين (المدنيين) ان مأساتهم ثمن اخلاصهم فى خدمتهم ويصلّون أن لا يقيم الله لأهلهم هذه الخطية، لأنهم يفعلون ما لا يعرفون.
فيعتزلونهم ويصمتون فى اللقاءات الأسرية، ويتقاعسون عن مد حبال المودة لهم، فيما لا يتوقفون عن خطب ود وخدمة اصدقائهم "فى انصاص الليالى"،
ربما لأنهم ينتشون باطرائهم ومديحهم لهم هناك فى الكورة البعيدة فيما تعنى الأسرة مسئوليات وأعباء بلا مردود متوهج كما فى الاصدقاء.
هل يفسر هذا لامبالاة الخدام، بتدرجهم، بخلاص وأبدية مخدوميهم وبلادة ردة فعلهم مع الأكثر حاجة للرعاية حتى لو تسلل من السفينة فى هجرة غير شرعية الى مراكب
الموت المتهالكة، فهم فى نظرهم "ابن هلاك". وهم لديهم ما هو أهم ، خطط ومعارك ومواءمات وتحالفات.
مازال ذاك الرجل القصير البدين حافى القدمين. يخايلنى ...