أحمد الخميسي
 مساء كل جمعة موعد اللقاء الأسبوعي مع صديقيه، التزموا به منذ سنوات الدراسة الجامعية البعيدة. يجلسون في مقهى، يثرثرون في كل ما يتصادف طرحه من مسائل، يقهقهون لأي كلمة أو ايماءة عابرة،  يتذكرون النساء، وقروضا صغيرة متبادلة، وأحلاما تحققت وأخرى يتعشمون أن تتحقق يوما ما. هذه المرة طالت الجلسة، أتوا خلالها على ذكر من يعرفونهم، استحضروا آخر النكات المحتشمة والبذيئة، إلى أن نفدت السجائر من العلب فوق سطح المنضدة فنهض مصطفى عبد الدايم يتحسس جيبه معلنا: طيب.. سأذهب لأشتري سجائر. وقام ابراهيم على إثره واقفا يقول: سأذهب معه.

     انصرف الاثنان وأصبح بمفرده والغروب يكسو بلونه الكراسي الممتدة من داخل المقهى الى الرصيف. أرسل بصره الى المارة في الشارع العريض، وفجأة مرقت سيارة بسرعة جنونية وكادت أن تصدم شابا يمشي بجوار فتاة. قفزت إلى ذهنه على الفور صورة شفيق زميله في العمل الذي قضت عليه سيارة طائشة من شهور قليلة وهو يعبر طريق صلاح سالم، ولم يكن قد تجاوز الثلاثين، شاب يفيض حيوية ، لم تفارق البسمة الرائقة وجهه،  يدخل الى المكتب على زملائه، يهز كتفيه كأنه يعلن فرحته بالحياة، يرفع حاجبيه ضاحكا: " صباح الخير يا زملاء". أين أمسى الآن؟ زالت لمعة العيون واختفى وقع خطواته وتلاشى ارتعاش نبرة صوته ، وأمسى صورة في الذاكرة لا غير.

     استند بظهره إلى الكرسي وراح يقلب في رأسه السؤال الذي يأخذ بخناقه ويلح عليه: هل أن ذلك هو كل ما يبقى منا؟ صورة تلوح وتختفي في ذاكرة؟. نفذت إليه الحيرة التي تغمره في كل مرة: ترى .. بأية صورة أود أن أبقى في الذاكرة ؟ حينما يكون وجودي الوحيد ومضة؟ هل أحتفظ دوما بابتسامة الرجل الرصين الصابرة؟ أم أجعل رأسي مرفوعا لأعلى بكبرياء خفيفة؟ بأية صورة أود أن يبقى؟ الإنسان العنيد؟ أم رجل طيب؟ أو أن أظهر سعيدا بكل ما حولي؟.
نفخ في الهواء بقنوط . لوح بيده للجرسون يطلب فنجان قهوة. عاد يتطلع إلى المارة، عبرت خياله أمه بجلبابها الأسود المسدل الذي لم تبدله إلا نادرا، تصحو قبل الجميع، تصعد في الفجر إلى السطح لتضع الحبوب للدجاج، ووالده القصير بكرشه الذي يتقدمه متجها إلى محل البقالة بالقرية، ويظل هناك حتى منتصف الليل ثم يرجع منهكا، تتلمس يداه باب حجرة النوم. يرجعان إليه مجرد صورتين، تظهران وتختفيان،  مثل رنين بعيد، حتى أن الشك انتابه ذات مرة في أنهما كانا موجودين بالفعل ذات يوم. ترد إلى ذاكرته صور آخرين، منهم نادية التي هام بها سنوات الجامعة، وعمه ناجي، ورفاق الطفولة. يفزعه أحيانا بل يرعبه التقارب الصامت في الذاكرة مع صور أشخاص لا يشيخون، لا يتصببون عرقا، لا يبتلون تحت المطر، ولا يموتون. اعتدل على الكرسي وسدد إلى الفراغ نظرة يأس صامت طغى عليها التوسل.

لاح صديقاه قادمين نحوه على الرصيف. جلسوا ثم أرسلوا بمن يأتيهم بسندويتشات، وانهمكا في الأكل من دونه إذ لم تكن به رغبة في الطعام، وقد سيطر عليه السؤال بأية صورة يود أن يبقى حين يمسى لحظة من دوران مضطرب؟. قال لنفسه: وحتى لو أنها لحظة عابرة فلم لا تكون جميلة عندما تلوح في زمن آخر؟. ألقى نظرة على صديقيه وهما ينتهيان من الطعام، ثم اعتدل، ووضع ساقا على ساق. فرد كتفيه وهو يرسم على وجهه ابتسامة كبرياء ضعيفة. نعم. إنه  يحب أن يبقى بهذه الصورة  عندما تحين اللحظة التي لا تتجعد بعدها بشرته، ولا يمرض، ولا تتلاشى بسمته، و يمسى وجوده كله ومضة تلوح وتختفي، ثم يغمرها النسيان.
نقلا عن جريدة القاهرة