القمّص يوحنّا نصيف
من أهمّ وأجمل النبوءات التي تكلّمَت عن مكان ميلاد الربّ يسوع، هي نبوءة ميخا المُذهِلة، كما جاءت في (ميخا5: 2): "أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ".
لذلك يحلو لي أنّ أقدّم في هذا المقال مقتطفات من تعليق بديع وعميق للقدّيس كيرلّس الكبير على هذه النبوءة الهائلة:
+ بهذه الأقوال يُبَشِّرُنا النبي بعودة الغِنى الخاصّ بنا إلى حالته الأولى. فها هو يتكلّم بكلّ وضوح عن الاستعادة؛ أي التجديد أو الانجماع الذي تحقَّقَ في المسيح، وبواسطة المسيح (أف1: 10)، كما يقول الكتاب "إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا" (2كو17:5)، وذلك بإعادة تشكيله لحالة الإنسان، وإعادة تجديدها إلى مستوى الحياة الصالحة.
+ إسرائيل.. كان محكومًا من الله في البداية بواسطة رجال قدّيسين. غير أنّه لم يمضِ وقتٌ طويل إلَّا وقد استولى عليه الحماقة واحتقار الخضوع لقيادة الله، مُفَضِّلاً بدلًا منها حُكم البشر؛ طالبًا شاول كملكٍ.. ولا شكّ أنّ الخبرة العمليّة أثبَتَتْ أنّ هذا التطوُّر لم يكُن مفيدًا لهم، بل كان مُتعِبًا وضارًّا وتسبَّب في دمارهم.
+ بناء على هذا، لاستعادة إسرائيل مرّة أخرى إلى حالته الأولى، كما كانت، وأقصد أن يكونوا تحت قيادة الله كملِك، هو تنبّأ جهارًا أنّ المسيح، الذي كان من بيت لحم، سوف يكون مُخلِّصهم وفاديهم.
+ من جانب آخَر، إذا قرّرنا إعطاء هذا المقطع تفسيرًا عامًّا، فلن يتعارض ذلك مع الغرض منه. فنحن البشر على الأرض، لَمـّا كُنّا قد رَفَضنا حُكمَ الله الملوكي، متّخذين لأنفسِنًا نِيرًا غريبًا، مُعتَرفين بربٍّ، لم يكن بحسب طبيعته رَبًّا، بل بالأحرى هو متكبِّر وجاحد -أقصد بالطبع الشيطان- فجلبنا على نفسنا كلّ عناء. لكن، مثلما قُلت قبل قليل، قد صمّم الله الآب أن "يَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ" (أف10:1)، و"أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ" (كو13:1).
+ إذن، يوجِّه الحديث إلى بيت لحم، أي بيت إفراتة. إذ بينما تُدعى المنطقة إفراتة، فإنّ بيت لحم هي قرية أو مدينة صغيرة في المنطقة، منها انحدر يسي وداود، والعذراء القدّيسة نفسها، التي وَلَدَت لنا الطفل الإلهي، ابنها يسوع "الذي رئاسته كانت على كتفه، واسمه ملاك المشورة العُظمى" (إش9: 6 سبعينيّة). هو مَلَكَ بواسطة الصليب -كما ترى- ولأنّه أظهَرَ "طاعةً حتى الموت، موت الصليب"، لهذا يقول بولس المـُلهَم بالوحي الإلهي: "رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ. آمين" (في2: 8-11).
+ لهذا هو يقول: "يا بيت لحم، بيت إفراتة، حتّى وإن كُنتِ صغيرة جدًّا بين ألوف يهوذا"، أي بالرغم من أنّه توجد الآلاف مِن المدن البهيّة والعظيمة في اليهودية، والمملوءة بأعدادٍ هائلة من السُّكان، لكن حتى لو كان الذين يسكنون ويحيون فيكِ قليلين جدًّا، إلَّا أنّك سوف تَصيرين حاضِنةً وراعيةً، وتُدعَين مدينة الذي يملك على إسرائيل، مثل راعٍ صالح جدًّا حتّى أنّه يضع الحياة نفسها من أجل الخراف (يو10: 11)، فيملك على كلّ إسرائيل. ليس فقط الذين من دم إسرائيل، لكن أيضًا أولئك المذكورين في الوعد لإبراهيم.
+ الوعد ينطبق بوضوح ليس فقط على أولئك الذين من دم إسرائيل، بل أيضًا على الذين "يَسْلُكُونَ فِي خُطُوَاتِ إِيمَانِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ وَهُوَ فِي الْغُرْلَةِ" (رو4: 12). وكأنّ الله يقول أنّه سوف يملك على كلّ الذين يؤمِنون به [يؤمنون بذلك الذي سيأتي من نسل إبراهيم]، ويربطون أنفسهم بي [بالله] مِن خلاله؛ فنحن قد ارتبطنا بالآب من خلال الابن، كما يؤكِّد هذا بنفسه قائلاً: "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي" (يو6:14).
+ إذن، خرج المسيحُ الراعي الصالح من بيت لحم؛ هذا الذي يرعانا في الجنّة وبين السوسَن (نش6: 1-2)، ويمدّنا بتعاليم الإنجيل ذات الرائحة الحلوة، ومثل الزهور العطرة يُقدّم ما لديه للذين يحبّون قطف هذه التعاليم، ويمتلئون روحيًّا بالعِطر القادم منها، فهو قال: "أَنَا زهرة الحقول، سَوْسَنَةُ الأَوْدِيَةِ" (نش1:2 سبعينيّة).
+ يقول النصّ: "مخارجه منذ البدء، منذ أيّام الأزل"، وقد يُعنِي بهذا وجود الكلمة قبل الدهور –فهو شريكٌ مع أبيه في الأزليّة، وهو نفسه خالق الدهور- أو يُعني حقيقةَ أنّه بالرغم أنّه صار إنسانًا في نقطة متأخّرة من الزمن، كما حدث، فإنّ سِرُّه كان معروفًا مُسْبَقًا من قبل تأسيس العالم، في عِلم الآب السابق. لذا فإنّ كلمة "مَخرَج" تُعني إمّا الولادة الأزليّة بواسِطة الله الآب، والناتج عنها الوجود الشخصي للابن، أو قد تُعني الظهور الذي سيحدث في الزمن عندما صار جسدًا، حتّى وإن كان "منذ أيّام الأزل" قد تمّ تعيينه مُسبَقًا مُخَلِّصًا وفاديًا بواسطة الآب (أف1: 4)، الذي لم يكُن يجهل كلّ ما سوف يحدث لجنس البشر في نفس الوقت كنتيجة لمخالفة آدم.
[عن تفسير القدّيس كيرلّس الكبير لسفر ميخا:
St. Cyril of Alexandria Commentary on The Twelve Prophets, Vol. 2, The Fathers of The Church, A New Translation, Vol. 116, Translated by ROBERT C. HILL, "Commentary on the Prophet Micah", pp. 181-278.]
ترجمة:
القمّص يوحنّا نصيف
* الصورة في موقع ميلاد الربّ يسوع، بكنيسة المهد ببيت لحم، أثناء زيارتي للمكان في أكتوبر 2019م