أحمد الخميسي
لا أقول إننا توقفنا عند ذكرى عيد ميلادك 25 ديسمبر، بل أقول إننا احتفلنا بعيد ميلادك، لأنك باق معنا، ولذلك فتحت قلبي في يوم ميلادك فتراصت على جانبيه مقاعد بلا عدد لأناس يتوافدون بلا نهاية. جلسنا معك، ننصت إلى ضحكات ابن البلد المجلجلة، ونستعيد قصائدك الساحرة التي تشبه السهام التي لا تخيب، وأنت تشملنا بتلك البساطة العذبة، وبأسرار الوجدان المصري الذي يبكي ويبتسم في آن، ويستخلص باسى ومحبة الحكمة كلها من المواقف والكلمات الصغيرة.
 
كان لجاهين فضل شخصي علي، فقد بدأت أقرأ رباعياته في الأهرام وأنا في نحو الثالثة عشرة، أحرص على شراء الملحق الأدبي للأهرام،
فقط لأقرأ صلاح جاهين، ولم أكن بحاجة إلى حفظ الرباعيات، كنت أحفظها ما إن تقع عليها عيني. وفي تلك السنوات كنا محاصرين بالشعر الرسمي في المدرسة من نوع : " أتاني أبيت اللعن أنك لمتني" ، ولم يكن أمامنا سبيل آخر للشعر إلى أن وجدت أنا وأبناء جيلي صلاح جاهين، الضاحك، السهل، العميق، فساق جيلا كاملا إلى حب الشعر.
 
كنت أقرأ الروايات المترجمة بسهولة أما الشعر فقد قادني الشاعر الكبير إلى محبته. وقد التقيت بالشاعر العظيم مرات قليلة، واحدة منها كانت في موسكو بصحبة الصديق أبو بكر، خلال لقاء بين جاهين وصحفي روسي كبير هو أناتولى سافرونوف، وكان الصحفي الروسي بدينا بشكل ملحوظ، وظل جاهين يشرح له شيئا ما ودكتور أبو بكر يترجم، إلى أن مل جاهين من الشرح فقال لبكر : " قل له أن يثق بما أقول لأن حديثي إليه حديث رجل بدين إلى رجل بدين" ! وانفجر الرجل الروسي في الضحك ونحن معه، وصارت الجلسة ودية تماما.
 
أحببت جاهين دائما، خلافا للكثيرين ممن تعرفت إليهم وأعجبتني أعمالهم ولم أحبهم شخصيا، فقد كانت فيه رحمة متصلة ومغفرة قلب شاعر كبير. ولا ننسى هنا موقف جاهين حين أدرج أحمد فؤاد نجم قصيدة للشاعر الكبير فؤاد حداد، ضمن ديوان نجم، من دون الاشارة إلى مؤلفها الحقيقي فؤاد حداد، ثم التقى نجم بصلاح جاهين في مجلة صباح الخير التي كانت تحتضن الشعراء الجدد، وقدم نفسه لجاهين فرد عليه صلاح جاهين:" أنت الولد اللي سرق أشعار فؤاد حداد؟".
 
ورغم ذلك ظل جاهين يساعد نجم ويقدم الدعم له في كل مجال، كما فعل مع الآخرين : الأبنودي وسيد حجاب وغيرهما. ويمثل صلاح جاهين في مسيرة شعر العامية المصري الحلقة الثالثة بعد بيرم التونسي، ثم فؤاد حداد، وعلى حين كان التونسي يراوح في أعمال كثيرة بين الزجل والشعر، اجتاز جاهين منطقة الزجل بالكامل إلى الشعر الصافي. وعلى حين كان فؤاد حداد صاحب لغة مركبة، وأبنية شعرية مركبة، عميقة ولا تنسى، كان جاهين صاحب لغة أسهل، وأبسط، مكنته من النفاذ الى فئات المجتمع كافة.
 
وبهذا الصدد قد أشبه حداد بالروائي صانع الأبنية وأشبه جاهين بكاتب القصة القصيرة الذي يختطف لحظة وينفذ منها إلى العالم. شيء أخير في عيد ميلاد الرجل العظيم أنه – أي جاهين- اعتمد على الفصيحة العامية ولم يلجأ لاستخدام لهجات الأقاليم التي اعتمد عليها البعض. ومثال ذلك قصيدته الشهيرة : " على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء .. أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء"، ولو تأملت هذه الكلمات لن تجد بها كلمة واحدة من اللهجة، فكلها فصيحة. ويظل جاهين الشاعر الذي تقول عنه وأنت تقرأه : أنا أحب هذا الشاعر. أحبه. وسيبقى اسمه وشعره ما بقيت الثقافة العربية المصرية وما بقي الشعر العربي.  كل سنة وأنت طيب يا عم صلاح، ومئة عام وعام من المحبة والفرح والشعر.