عاطف بشاي
تناولنا بالتحليل فى المقال السابق أهمية وقيمة عنصر «الزمن»، الذى برع «نجيب محفوظ» فى تجسيده فى الروايات المختلفة، ومن ثم استفاد منه كتاب السيناريو عند تحويل الكثير من هذه الروايات إلى سيناريوهات فى أفلام سينمائية عديدة.. وباعتبار أن السينما فن «زمانى - مكانى» فيما يتصل بالبناء الدرامى، فإن البعد المكانى قد استخدمه كاتبنا الكبير استخداما مدهشا وبالغ التأثير فى المحتوى الدرامى للروايات، وبالتالى فى الأفلام السينمائية المأخوذة عن هذه الروايات.. فكل مكان مرتبط بمعالم معينة تؤثر فى الأحداث الدرامية التى تقع فيها، وبالتالى فإن الاختيار الجيد للمكان يضيف أهمية ورونقا لجوهر ومضمون الفيلم وموضوعه وطبيعة العلاقة بين الشخصيات الدرامية المطروحة.
وقد كان معظم أفلام المرحلة الأولى المرتبطة بروايات نجيب محفوظ تدور داخل الحارات والأزقة الشعبية، ولم يكن المكان فى هذه الأفلام مجرد إطار أو شكل خارجى يرسم الجو العام للرواية.. بل يساهم مساهمة فعالة فى تصاعد الأحداث وتوهج الصراعات وصخب التحولات والمصائر، فمثلا فى رواية «زقاق المدق» يرصد نجيب محفوظ مأساة الجموح الفردى، الذى ينشأ من عدم التوافق مع المجتمع.. فـ«حميدة» الحسناء التى تقطن فى ذلك الزقاق الغارق فى الفقر والعوز وشظف العيش وتواضع طموحات أفراده التعساء، تشذ عنهم وتتمرد على واقعها الاجتماعى البائس وتهفو - مستخدمة جمالها - إلى الفرار من الزقاق إلى حياة جديدة مختلفة براقة وجميلة ورغدة تستحقها، يزينها لها فؤاد المنحرف، يقودها إلى الانحراف بممارسة الدعارة.. والتناقض بين الحياتين - حياة البؤس فى الحارة وحياة المال والأضواء والأزياء والمأكل الشهى والمسكن المرفه، يتم تجسيدها من خلال براعة «نجيب محفوظ» فى سرد تفاصيل المكان فى صورة مرئية دقيقة ومبهرة وإقامة علاقة تبادلية حميمية بين شخصيات الحارة وطبيعة هذا «المكان»، وهو ما دفع عميد الأدب العربى «طه حسين» إلى الإشادة بالرواية من خلال مقالة كتبها.. اعتبر فيها «زقاق المدق» بحثًا اجتماعيًا متقنًا كأحسن ما يبحث أصحاب الاجتماع عن بعض البيئات بتصويرها تصويرًا دقيقًا ويستقصون أمورها من جميع نواحيها.. والبحث الاجتماعى المتقن الذى يربط بين شخصيات الرواية وبين البيئة التى يُجرى فيها الأحداث ويفجر التناقض الكبير بين العالم الضيق الذى يمثل «الزقاق» وبين عالم المدينة الواسع الرحب بأضوائه ومباذله.
وزقاق المدق هو أحد الأزقة المتفرعة من حارة الصناديق بمنطقة الحسين فى الأزهر الشريف.. وتدور أحداث الرواية فى الزقاق الصغير فى أربعينيات القرن العشرين أثناء الحرب العالمية الثانية.. وكان فى الماضى إسطبلًا..
إن «حميدة» تمثل الطموح والفقر.. ففى شباكها المرتفع تطل على عالم الزقاق فى سخط واشمئزاز وتتطلع إلى آفاق أبعد.. و«عبقرية المكان» عند نجيب محفوظ فى الرواية تتمخض فى هذا الصراع الخارجى والداخلى بين «زقاق المدق» وحانات المجون التى تكتظ بالجنود الإنجليز السكارى.. وتتجسد ذروة الصراع حينما يذهب إليها «عباس الحلو»، الحلاق خطيب «حميدة» السابق، الذى غدرت به و«بالزقاق» وخانته مع الإنجليز بصفتها الداعرة، محاولًا إعادتها إلى أصولها الممثلة فى الزقاق، لكنه يصطدم فى معركة ضارية مع جندى إنجليزى تسفر عن مقتل حميدة بطريق الخطأ.
وفى «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» تتبلور عبقرية المكان.. فى وحدة كل منهما.. الأولى فى العوامة التى تجرى فيها معظم أحداث الرواية وكذلك الفيلم.. ووحدة المكان فى الثانية داخل «البنسيون».
فى «ثرثرة»، التى تجتمع فيها «شلة الكيف» فى عزلة كاملة عن المجتمع وسلبية مطلقة إزاء حركة الحياة خارجها، يبرز الرمز من خلال الحدث الرئيسى أو ما يسمى (المشهد الإجبارى) بجريمة قتل حينما تطيح سيارة أحدهم بفلاحة عابرة فى أول خروج للشلة من العوامة.. والرمز هنا يتمثل فى ضياع العوامة وسط النيل بسكانها المخمورين الذين يعبرون عن مجتمع الهزيمة.. والإشارة هنا تلمح إلى نكسة (67).. أما الرمز فى «ميرامار» فهو يتجسد فى خادمة البنسيون «زهرة» التى تغادره بعد محنة اختبار عاطفى فاشل.. أو كما يقول الناقد الكبير «محمود أمين العالم»: «لقد هربت زهرة من التقاليد القاسية التى تحد من حريتها فى القرية، فلم تجد فى بنسيون المدينة إلا الكذب والادعاء والخيانة والفجور والاستعلاء».
إن عبقرية المكان عند نجيب محفوظ، التى شملت معظم رواياته وقصصه القصيرة، متمثلة فى الحوارى والأزقة والشوارع والمقاهى فى الأحياء المختلفة والبنسيونات والفنادق ودواوين الحكومة، سُميت الكثير منها بأسماء أماكنها مثل: «درب المهابيل» و«خان الخليلى» و«زقاق المدق» و«بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية» و«الكرنك»... إلخ.. وشكلت عوالم تمثل توازنًا براقًا مع عوالم واقعنا الاجتماعى والسياسى والفكرى.. وكثيرًا ما تمثل تجاوزًا لذلك الواقع إلى رؤى فلسفية عميقة.
نقلا عن المصرى اليوم