بقلم: مهندس عزمي إبراهيم
أذكر في طفولتي أن كان لدى والدي جهاز "جراموفون"، يدير عليه اسطوانات الأغاني الحديثة وقتها. وكان ذلك قبل انتشار الراديو. وكانت أغاني أم كلثوم الأولى والقديمة جداً جداً حديثة في ذاك الوقت. أتذكر أن أصوات الأغاني وقتها كانت "بتسرسع" وكانت تدهشني ولا تعجبني. كان يعجبني صندوق الجراموفون المصنوع من الخشب "الماهوجني" القيِّـم الزاهي، يحمل على صدره البوق النحاسي الشهير. وكان والدي كلما سحب الجراموفون من مكانه المفضل بدولابه الخاص يجري عليه بفوطة "شمواه" خاصة تجلو الصندوق لمعاناً وتزيد بوقه بريقاً. كما كان يجري الفوطة الشمواه على كل اسطوانة من كلا وجهيها قبل أن "يلعبها" على الجراموفون ويستمتع بها في جلسات وسهرات سَمَـرٍ مع أصدقائه. كان الرمز التجاري للجراموفون وما زال هو صورة الصندوق والبوق مع صورة "كلب" يجلس أمامه مشدودأ مستغرقاً مستمتعاً بالصوت (صوتُ سَيِّـده) المنبعث من بوقه ناظراً إليه في خشوع يكاد يشبه العبادة. وكان شعار الجراموفون هو تلك العبارة، بالانجليزية "هِـز ماستَـرز فُويـس" وبالعربية "صوت سَيِّـده".
تجذبني هذه العبارة وتستدرج أفكاري للمقارنة بما يجري اليوم بمصر. فكما للكلب "سَيِّـدٌ" يَكِنُّ له الوفاء والولاء ويستحب قُربَه ورضاه ويمتثل لأوامره، فلا غرو ولا عجب أن يكون للإنسان "سَيِّـدٌ" يلجأ إليه في خشوع واحترام وإعجاب وانبهار بعظمته وبقدراته، كما يلجأ إليه راجياً مشورته ورضاه. و"سَيِّـدُ" الإنسان هو خالقه، هو الله عز وجل. يلجأ إليه بتقدير جلاله وقدراته العليا الفائقة اللامحدودة لخلق الكون وادارته. كما يلجأ إليه راجياً عونه في شدته، ومعونته عند احتياجه، وغفرانه عندما ينزلق في خطأ أو خطيئة.
وبجانب أن للإنسان رَبـُّه الخالق "سَيِّـداً" يرعاه ويرشده ويرزقه ويحميه ويتخذه ملجاً وسنداً، فله أيضاَ "مُساعِـد سَيِّـد" يقوده في تصرفاته ويرشده إلى الطريق السوي الذي يرضى الله، "سَيِّـده الأول والأوحد" ويحيد به عن طريق السوء. هذا "السَيِّـد المساعد" هو الإنسان ذاته، أو بتعبير أدق "عقلـه" وبتعبير أكثر دقة "ضميره". فضمير الإنسان هو وعاء إنسانيتة ومرآة قلبه وروحه، وهو نبع إحساساته ومقياس إنسانيته في مُجمَل تصرفاته، وهو حلقة الاتصال بينه وبين "سَيِّـده" الأوحـد.. "اللـــه".
عندما يُسَيِّـدُ الإنسان رَبَّه ويستند إلى ضميره فهو على الطريق المستقيم والمسار السوي. ولكن عندما يترك الإنسان خالقه ويهمل ضميره، ويُسَيِّـدُ إنساناً آخراً، أو يُؤلـِّـهُ أنساناً آخراً مهما علا قدر ذاك الإنسان المُسَيَّـد، فهو جاحدُ لخالقه ومُعدِمٌ لضميره، وكما يُقال كافر معدوم الضمير.
فعندما يتغافل المسئول عن صوت "سَيِّـده" المستحِق السيادة، أي رَبـّه وخالقه، ويتجاهل صوت "مساعد سَيِّـده" أي عقله أو ضميره.. ويتبع ويطيع صوت "سَيِّـده" الإنسان في شخص مرشده أو رئيس جماعته. فقد حاد عن الله والدين والإنسانية والرشد والحكمة جميعاً.
أحترم "الكلب" أن يُسَيِّـد سَيِّـده، فذاك وفاءٌ منه وولاءٌ لمن يستحقهما. وأقـَـدِّر "الانسان" عندما يُسَيِّـد إلهه، فجميل منه الخشوع والطاعة والتقديس لربه. كما أقـَدِّر "الانسان" أيضاً عندما يستعين بعقله أو ضميره فنِعم المرشد الحق ونِعم المعين الصدوق. ولكن عندما "يُسَيِّـد الإنسان إنساناً" ويمنحه وفاءه وولاءه راضياً أو مُجبَراً أو مغسول مُخّـاً مُجَمَّـد تفكيراً، ويطيع أوامره ببصيرة مريضة أو بطواعية عمياء أو بغباء تلقائي، فقد وضع نفسه أقـل مكاناً وأدنى قـدراً من "الكلب". لأن الكلب لا "يُسَيِّـد كلبـاً" ولا "يُؤلـِّـه كلبـاً"!!.
أؤمن تماماً أن الملوم الأول فيما وصلنا وما وصلت إليه مصر اليوم من فوضى وانهيار في جميع النواحي الحياتية هو المشير حسين طنطاوي والفريق سامي عنان ومجلسهما الأعلى للقوات المسلحة عندما حكموا مصر منذ ثورة يناير 2011 حتى تسليم الحكم لمحمد مرسي في يونيو 2012، مقابل الخروج الآمن لهم. فقد عقدا الصفقات المشوبة مع الأخوان المسلمين وقطر والسعودية وأمريكا بل وإسرائيل ففتحوا أبواب مصر للأخوان والسلفيين البهائيين والجهاديين المتأسلمين وبنات خالاتهم من الجماعات والمجموعات المحظوره، ليقتنصوا منصات ثورة الشاب في يناير 2011، وليقتنصوا مصر وحريتها وأمنها وشوارعها وميادينها وبرلمانها ورئاستها وكل مفاصلها وحيوياتها، حتى انتهى الأمر بوضع مصر أو عنق مصر في يد الأخوان ليحكموها حكومة وبرلماناً وإعلاماً وتعليماً.
والأخوان كجماعة، تفرض مبدأ "وجوب الطاعة المطلقة" على جميع أعضائها بما فيهم أعلى الأعضاء رتبة ومركزاً وقيادة. فكلهم قد أقسموا على ذلك قبل قبولهم في عضويتها، ومن يحنث في ذاك القسم فله جزاء جسيم. جزاء لا يعلمه العضو حتى بعد أن يُوقَّع عليه الجزاء!!! فكلهم أعضاء وقادة منساقون بالمرشد العام كقطيع غنم لا رأي لهم ولا قول ولا إرادة إلا السمع والطاعة المطلقة بلا نقاش أو سؤال أو استعلام أو معارضة. فما هم في الحقيقة إلا عبيـد لـ "سَيِّـدين". "سَيِّـد" مباشر يرأس كل عضو ويُملي عليه الأوامر الصادرة من أعلى، و"سَيِّـد" أعلى هو المرشد المقيم في قصره العاجي يحكمهم ويديرهم ولا راد لحكمه أو رأيه. فكل عضو بالجماعة مرؤوس بها. ولا يُستثنى من ذلك دكتور محمد مرسي العياط عضو الأخوان فهو مرؤوس بسَيِّـد منها وهو بالطبيعة المرشد العام محمد بديع المقيم بـ "قصر رئاسة جمهورية مصر الأخوانية بالمقطم" حالياً.
الأمر واضحٌ كالشمس. فما أن تولى محمد مرسي كرسي رئاسة مصر بتخطيط شيطاني وتزوير مدعم وتهديدات صريحة من الجماعة وأعوانها حتى اتضحت معالم سياسته وأهدافه واهتماماته وأولوياته. في ستة شهور لم تحظي مصر ومشاكلها الخطيرة بلفتة منه. بل كل اهتمامه كان مُرَكَّزا في أخونة أجهزة الدولة لتحصين مركزه وتنفيذ مناهج الأخوان في دستورها وتعليمها واعلامها وغير ذلك. بل وفتح الباب على أوسَعَهِ لحماس وليدة الأخوان كي تتمركز وتتملك بغزة وسيناء أرض مصر الغالية، وأن تفتتح مكتب إدارة عملياتها بالقاهرة!!!! كل هذا بتمويل قطر والسعودية وأمريكا ومباركة إسرائيل عدو العرب اللدود (في الظاهر فقط).
أثبت مرسي العياط المنتخَب رئيساً لمصر (زوراً وتزويراً) أنه لا يحكم مصر. بل يسلم حكمها للمرشد. فعندما يركع رئيس دولة في حجم مصر لأوامر المرشد تحت مبدأ السمع والطاعة للجماعة وأهدافها التي هي خارج نطاق مصر وبعيدة عن صالح مصر، في طاعة غبية عمياء.. فهو "عبـدٌ :يُؤلــِّـه عبـدٌ". فلو استسلمنا لذلك واستبَدَّت الأخوان بمصر فمآل كل مصري أن يصير خروفاً أو نعجة من القطيع، قطيع السمع والطاعة، عبيدٌ في عبيدٍ في عبيد. ومصر الحرة لا تقبل ولن تقبل سلطنة العبيـد أو العودة إلى حكم المماليك مهما ساندهم الشيطان فقد تولى ذاك العصر إلى لا عًـوْدٍ. وستلفظهم مصر بأبنائها الأنقياء إن عاجلا أو آجلا كما يلفظ الجسد الحر المواد الغريبة والشوائب والفضلات.
وتعلم مصر والعالم أن معظم قادة الأخوان إرهابيين. كانوا إما مُستَبعَدين أو هاربين بالخارج أو مُعتقلين هُرِّبوا من السجون في "هوجة" يناير 2011 أو أفرج عنهم في حكم المشير طنطاوي أو الرئيس مرسي. فتح العسكر لهم المنافذ إلى مصر، وفتح مرسي لهم أبواب مصر على مصاريعها. ونعلم أن الأخوان مسلحون ومدربون ويساندهم وهابيون ارهابيون ومتأسلمون فوضويون. فلنتوقع ما سنلقي في سبيل إرساء قواعد الحرية في مصر وقمع أنصار العبودية. ولا ننسى أن المستقبل بالنسبة لهم هو إما حيـاة في قصور أو عـودة إلى السجون أو هروب وشتات من جديد. وأن هذه هي فرصتهم الأخيرة، فإما وجود أو لا وجود. لذلك قد يلجأوا إلى وسائل عنف إجرامية فهم لا يهمهم سلامة مصر ولا سلامة المصريين، لأنهم مصريون بالاسم فقط، ولا مصريون فكراً وسياسة وقلباً وقالباً. فقد قال مرشدهم السابق "طظ فى مصر واللي في مصر" وهذه هي فلسفتهم. فليس الأمر أمامنا سهلا وليست الحرية رخيصة الثمن... ولن تكون!!!
لذلك أوقظ كل مصري حر شريف أمين، فمصر تحتاج كل يد مخلصة، وكل قلب يعشق ترابها، لصد تلك الجهالة السياسية الحمقاء المغرضة المخفاة في عباءة الدين زوراً وبهتاناً، والدكتاتورية الاجرامية الصارخة ممن يَدَّعون أنهم مصريين، والتي لم ترها مصر على يد أي مستعمر أجنبي غاشم.
إن أبناء مصر المخلصين لها، من أي دين ومذهب وملة وجنس، هم جنودها وخميرتها الطيبة وخير من عاش على أرضها. أما تلك التيارات المستوردة المأجورة، المشوشة فكرياً والارهابية سبيلاً وهدفاً، فهي غريبة على مصر، مدفوعة ومدفوعٌ لها من دول توافقت على الشر لمصر، وتآلفت قلوبهم وأهدافهم على تفتيتها وتقسيمها معنوياً ودينياً وجغرافياً. فلتتحد كل القيادات الوطنية المدنية نازعين عنهم الفكر الأناني والمصالح الشخصية. ولنقف معاً لصد تلك الموجات الهادمة المتخلفة، ولنتآلف جميعاً للمساهمة في إقامة مصر الحديثة: مدنية ديموقراطية راقية حضارية تنعم بغَـدٍ تشرق فيه شمس الحرية والاستقرار.
صحا المارد المصري أو في طريقه أن يفوق من غفوة طالت. ولنتذكر أن قوى الظلام مُسلحة ومُدربة ولها قيادات خبيثة واكرة، ومدفوع لها دينارات وريالات ودولارات. بينما المارد غير مسلح وغير مدرب وغير مُمَول ماليـاً... إلا إذا صحا معه وسانده جيشنا الحر العظيم في ثورة عارمة من أجل حرية دولة كانت حرة، وكانت عظيمة، وكانت كريمة.. وما زال لديها الأمل أن تكون.
أن ما في يدنـــا اليــوم هو اليــوم، وإن لم يكن اليـــوم فغــــد قريـــب.