سمير مرقص
(1) «صفصافة: سيرة للذات والوطن»
يؤكد أحد أهم المنظرين لفن كتابة السيرة الذاتية: «أنه كلما تقاطعت السيرة الذاتية مع المسار التاريخى للواقع الذى عاشه، ولم يزل، صاحب السيرة الذاتية، حصلنا على سيرة ذاتية عالية القيمة». ويقينًا تنتمى «صفصافة الصعيد»، السيرة الذاتية للأستاذة الدكتورة والمناضلة «عواطف عبدالرحمن»، إلى ذلك النوع من السير الذاتية الذى أشرنا إليه.

ولا أبالغ إذا قلت إن «التقاطع» الذى أشرنا إليه قد تعددت وتشابكت مساراته ما أنتج نصًا ثريًا حول «صفصافة: عواطف عبدالرحمن»، والصعيد، ووضعية المرأة الريفية، والواقع السياسى والاجتماعى/ الطبقى المصرى، والدائرة الأكاديمية المصرية، ومسيرة الوطن. بلغة أخرى، قارئ «صفصافة» سوف يجد نفسه أمام عمل متعدد الأبعاد.

حيث تتداخل فيه معًا، إضافة إلى السيرة الذاتية، القراءة السوسيولوجية للواقع المصرى خاصة صعيده، والإطلالة التاريخية لمصر فى عهودها المتعاقبة منذ نهاية العقد الرابع للقرن العشرين وحتى نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، كذلك النظرة العلمية لأحوال الجامعة المصرية. وتستلهم الدكتورة عواطف عبدالرحمن نهج «سلامة موسى» الذى تعتبره «أول من استخدم مصطلح السيرة الذاتية فى كتابه المعنون: تربية سلامة موسى».

وأشار بوضوح إلى نهجه الشامل فى كتابة هكذا نوع أدبى إذ كتب: «وأنا إذن فى هذه السيرة لست مؤرخًا لنفسى فقط، إذ إنى حين أترجم بحياتى وأصف للقارئ كيف تكوَّنت شخصيتى وكيف ربيت نفسى، بل حين أعزو إلى نفسى بعض الفضل فى تحطيم المعابر التى كانت تَصِلُ يومنا بأمسنا، أى بالقرون المظلمة، وتحاول ربط تاريخ الغد الحافل بالاقتحام والشجاعة والرؤية بتاريخ الأمس، وهو مأساة حالكة بالظلم والفاقة والجهل والجبن، فى كل ذلك إنما أروى تاريخ العصر الذى عشت فيه، وتاريخ الجيل الذى كنت أحد أفراده».

(2) «الكشف عن المسكوت عنه»
لم تُعنَ «صفصافة: الدكتورة عواطف عبدالرحمن» أن تتحدث عن أمجادها، أو تثأر ممن ظلموها فى سيرتها الذاتية بقدر ما تفتح الأبواب الموصدة حول الحقائق التى تتعلق بالمجتمع والسياسة والأكاديمية فى مصر. لذا حرصت كما تقول فى تقديمها «لصفصافة» أن تقول: «... كما تيقنت أن دور السيرة الذاتية- من وجهة نظرى- أن تضىء وتكشف المستور والمسكوت عنه.

وتظهر ما نعجز أحيانًا كبشر عن استشعاره ورؤيته واستيعابه». وفى ضوء هذا النهج/ اليقين تطرقت «صفصافة» إلى الكثير والكثير من المسكوت عنه، خاصة ما يتعلق: «بالموروثات الاجتماعية والثقافية ومنظومة القيم والتقاليد والتفسيرات السلفية للنصوص الدينية التى لاتزال تمارس سطوة ملحوظة فى مجتمعاتنا العربية... ورغم تعدد صور المسكوت عنه وتنوعها فى مصر المحروسة».

وواضح تمامًا من قراءة «صفصافة» أن الدكتورة «عواطف» عندما شرعت فى كتابتها كانت تعى تمامًا نقطة ضعف «أغلب السير الذاتية العربية» فى أنها «تركز على الجوانب العامة السياسية والاجتماعية.

ولا تملك الجرأة على كشف مكنونات الواقع المجتمعى والحياة الخاصة بتشابكاتها وتعقيداتها وأسرارها وتناقضاتها وخفاياها، إذ إنها لاتزال محكومة بقوة السلطة الاجتماعية، التى تحول دون حرية البوح والإفصاح عن العلاقات الخفية، والنزعات المتناقضة داخل النفس البشرية، وسائر الصراعات بين الذات والآخر، إذ إن جميع هذه الجوانب لاتزال مخبأة فى صندوق أسود محكم الإغلاق، لا يمكن الإفشاء به أو إعلانه مكتوبًا ومدونًا ومعروضًا على الرأى العام، وهنا تبرز إشكالية حدود العام والخاص لدى كتاب السيرة الذاتية».

(3) «صفصافة من الصعيد إلى المدينة وما هو أبعد وبالعكس»
يمكن القول إن سيرة «صفصافة» هى سيرة كاشفة. حرصت كاتبتها أن تتحرر من الكتابة السائدة «المهيمنة»، حسب تعبير البروفيسور الفرنسى «فيليب لوجون» (86 عامًا، وأهم من كتب فى فلسفة السيرة الذاتية).

أى لم تكتبها من علٍ، أو من خارج الظواهر التى تتعرض لها بالذكر والتدوين فى أوراق سيرتها الذاتية. فهى تكتب عن الصعيد باعتبارها ابنة هذا الصعيد، حيث عاشت همومه، والأهم أنها لم تنفصل عنه قط. ولم تحل سكنى المدينة/ العاصمة، والأكاديميا، والأسفار العلمية الكثيرة، عن أن تكون دائمة العودة (أو ما أطلقت عليه جولاتها المكوكية) إلى مكان النشأة من خلال العمل التنموى أو من خلال تجربة خوض الانتخابات البرلمانية عام 1984.

ما عصم السيرة الذاتية من «الهيمنة»، أى رؤية الواقع رؤية زائفة. بل يمكن القول إن: الصفصافة التى رُويت بماء النيل وترعرعت ونمت وأثمرت فى جنوب أسيوط قد ظلت وفية للتربة التى نبتت فيها، بل استطاعت أن تستوعب وتتمثل كل ما تعرضت له مع امتدادها الذى وصل إلى المدينة وتجاوزها إلى ما هو أكثر من ذلك... نواصل.
نقلا عن المصرى اليوم