الأقباط متحدون - إلى الجميع!
أخر تحديث ٠٠:١٤ | الخميس ١٣ ديسمبر ٢٠١٢ | ٤كيهك ١٧٢٩ ش | العدد ٢٩٧٣ السنة الثامنة
إغلاق تصغير

إلى الجميع!

 بقلم د. يوسف حبيب

 
الدستور الملغوم: شاطر ومشطور من المباديء الجميلة وبينهما طازجٌ فاسد مسموم
أشجعكم على قراءة الانتقادات المحدَّدة التفصيليَّة الموجَّهة لمسودة هذا الدستور. وهي موجودة على صفحات كل من عارض هذا الدستور. 
 
هناك حوالي 60 نقطة ملغومة في الدستور المطروح. وكل مرَّة يمنح فيها حقّ للمواطن يقوم بحرمان المواطن مباشرة من هذا الحق من خلال إضافة مخادعة في نفس المادة أو إضافة تناقضه في مادة أخرى.
هذا الدستور يحوِّل مصر إلى دولة دينيَّة لا تختلف كثيرًا عن دولة محاكم التفتيش في العصور الوسطى : مادة 219 المفسّرة للمادة الثانية، والمادة 4 التي تجعل رأي الأزهر في أمور الشريعة هو رأي المرجعية، والمادة 10 التي تفتح الباب على مصراعيه للدولة للتدخل في الحياة الحميميّة الخاصة للأُسرة الواحدة ويمكنها أن تتدخَّل في عمل المرأة وطبيعته، والمادة 11 التي تجعل الدولة راعية للآداب والأخلاق دون تحديد طبيعة هذه الرعاية ودون تحديد المقصود بــ "المستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية" التي تريد الدولة أن ترعاها... ولكم أن تتخيَّلوا ما قد يحدث إن كانت "الدولة" لها رؤية أخرى مخالفة للعُرف القائم الخاص بالقيم الدينية والوطنية وتفرض "هي" أو يفرض "جناح تشريعي معيَّن" رؤيته هو لِما يجب أن يكون... ومن لا يرضخ... فهم لنا بالمرصاد.... بل إن هذه المادة تعود بنا إلى عهد جاليليو الذي لم يعجب اكتشافه السلطة الدينية القائمة آنذاك حيث تمِدّ نفس المادة 11 تلك الرعاية إلى الحقائق العلميَّة -لا البحث العلمي-  حيث تقول: "ترعى الدولة الأخلاق والآداب والنظام العام، والمستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية، والحقائق العلمية،..." وتنهي العبارة بالعبارة المعتادة التي تفتح الباب للمشرِّع أن يفعل ما يشاء فتقول: "وذلك وفقا لما ينظمه القانون." !!!!
نَعَم! "وذلك وفقا لما ينظمه القانون."... بهذه العبارة جميع الحقوق الموجودة في هذا الدستور من الممكن نسفها حين تكون فضفاضة مطاطة غير محددة بمعايير في الدستور ثم يترك الدستور للمشرِّع أن يضع القانون الذي يراه. ماذا لو كان المشرِّع ينتمي للتيار السلفي السياسي المتشدِّد في لحظةٍ ما... أو ماذا إذا ترك نواب الاخوان المسلمون بعض الأمور وفقًا لما يريده السلفيون حتى يحصل على أصواتهم أو ليتحالف معهم ضد من يريدون دولة مدنية حقيقية؟؟؟
وماذا عن المادة 44 الخاصة بعدم إهانة الأنبياء أو التعريض بهم؟ أليس ذلك كلام جميل نريده جميعًا؟ ولكن كيف توضَع هذه العبارة في دستور دون تحديد أية معايير للمقصود بإهانة الأنبياء والتعريض بالرسل؟ وما هي حدود عدم الإهانة أو التعريض؟! وكيف يمكن أن يتحقَّق هذا المقصد دون إحداث "ظلم فادح" بما أن تشريع الدولة بأكمله كما سنرى لاحقًا (من خلال المادة 219) بعتمد أساسًا على الكتب الخمسة للحديث الشريف والكتب التفسيرية لها والقائمة عليها بل وعلى القرآن الكريم نفسه!!!! أي أن كل قانون قد نناقشه في البرلمان وعلى صفحات الجرائد والإعلام المرئي والمسموع والانترنت.... كل قانون سنضطر فيه - شئنا أم رفضنا - إلى ذِكر أحاديث شريفة وتفسيراتها... وكم من الممكن تلفيق التهم للمعارضين لمن هم في الحكم أو لمن ليسوا في الحكم... كم من الممكن استخدام هذا الاتهام: "لقد قام بإهانة النبي أو قام بالتعريض بالنبي..." ومقاضاة الناس في المحاكم وإخضاعهم للحبس الاحتياطي... إن اثني عشر ساعة في الحبس الاحتياطي دون صدور قرار اتهام أصلاً ودون السماح خلالها للمتَّهم بمحامي أو بمخاطبة أهله  خلال هذه الـ 12 ساعة هي كافية للتنكيد على هذا الإنسان ولتعريضه لضغوط كثيرة (مادة 35: .... يبلغ كل من تقيد حريته بأسباب ذلك كتابة خلال اثنتى عشرة ساعة...... وينظم القانون أحكام الحبس الاحتياطى ومدته وأسبابه).
 
أعود إلى المادة 44 الخاصة بالأنبياء والرسل فأضيف أن هذه المادة لا توضِّح على الإطلاق حدود حديث غير المسيحيين بشأن إيمان المسيحيين الذين يؤمنون بالوهية المسيح وكثيرًا يشعرون بالإهانة من جراء كلام بعض الشيوخ على المنابر المصرية الذي يحتوي على ازدراء صريح لإيمانهم. كذلك لا تُوضِّح هذه المادة إشكاليَّة من يقوم من غير المسلمين بالإعلان جهرًا بأن رسول الإسلام ليس خاتم المرسلين كما هوالحال في قناعة المواطنين المسيحيين والحال لدى الأقلية الصغيرة من البهائيين، وهو ما قد يتسبب في تعريضهم لأشد العقاب حتَّى وإن تحدَّثوا في هذا الشأن بنيَّة صادقة دون أن يقصدوا أية "إهانة" لإيمان اخوتهم المسلمين ودون أن يقصدوا أي "تعريض" برسول الإسلام! إذًا بدلاً من أن تحقِّق هذه المادة مبدأ احترام الأنبياء والرسل فهي على العكس في شكلها الحالي قد يُساء استخدامها لقمع الحريات وتكميم الأفواه و"تحوير" مقاصد الناس البسطاء من مقاصد حسَنَة عفويَّة إلى مقاصد تحمل الضغينة والإهانة لم يقصدوها على الإطلاق... فيتمّ على أساس ذلك مقاضاتهم على أنهم مثيرو فتنة مثلهم مثل مثيري الفتن الحقيقيين!...
وإذا أضفنا إلى كل ذلك أن مادَة الصحافة التي يؤكِّد ظاهرها على حرية الصحافة إذا بها تتحوَّل في لحظة إلى مادة لتكبيل حرية الصحافة التي يدعي هذا الدستور بأنه يمنحها، وكذا مادة الحصول على المعلومات حيث يواجهنا مشروع الدستور هذا بعبارة صغيرة تنسف تماما العمل الصحفي وهي "إلا إذا تعارض ذلك مع "الأمن القومي"" دون أي تعريف للمعايير الحاكمة لما هو مقصود بعبارة "الأمن القومي"، والذي علينا ألا ننسى أن الرئيس في الدستور هو المسؤول الأول عن الأمن القومي... وهكذا فإن أي هجوم على الرئيس أو على سياساته ورئيس وزرائه ووزرائه من شأنه أن يعرِّض الصحفي أو صاحب الرأي إلى توجيه اتهامات له بأنه أساء للأمن القومي، أو أن يتمّ حَجَب المعلومات بحجة أن المعلومات التي يطلبها الصحفي فيها أسرار تؤثر على الأمن القومي!... وهذا كافي لـ "جَرجَرة" هؤلاء الصحفيين أو أصحاب الرأي في المحاكم أو لحجب معلومات جوهرية للشفافية ولتوصيل الحقيقة للشعب المصري. (47 و48) كما أن خبراء القانون الدستوري والصحفيون يعيبون على المادة 48 بأنها لا تَنُص على حظر عقوبة الحبس في جرائم النشر. وهذا أمر خطير بعد إنجازات ثورة 25 يناير على مستوى الحريات. 
نضيف إلى ذلك أن مشروع الدستور هذا جعل للرئيس سلطة مطلقة من خلال منح 23 اختصاص في 23 مادة لا يخضع فيها لأية مُحاسَبة إلا في حالة ارتكاب جناية أو الخيانة العظمى وفقًا للقانون ولكن لم يصدر مثل هذا القانون قط منذ الخمسينات فما قيمة تلك العبارة الآن! (راجع فيديو جابر نصار الذي يؤكِّد على أن سلطات الرئيس زادت في هذا الدستور عما حدث مع الرؤساء السابقين).  
كما يتحدَّث مشروع الدستور بكلام تجميلي عن العدالة الاجتماعية دون وضع معايير حقيقية تلزم المشرِّع بتحقيقها. ففي إطار حديث المادة 14 بشكل فضفاض عن العدالة الاجتماعية تغيب المعايير الواضحة بل ويصل الأمر إلى إدخال مبدأ يناقض ميثاق منظمة العمل الدولية من خلال عبارة " ويجب ربط الأجر بالإنتاج" وهي عبارة خطيرة تستطيع الدولة من خلالها التحكُّم في لقمة عيش مئات آلاف العاملين ووضع سكين على رقبة الناس تستخدمه حينما تشاء بدءًا من العامل في قهوة إلى العامل في مصنع أو الطبيب أو المهندس. إنها عبارة فضفاضة من الممكن إساءة استخدامها وقتما كانت هناك إرادة لهذا. كما لم تربط هذه المادة بين الأجر وزيادة الأسعار وتضخُّم السوق. وهي أمور عانى منها المواطن المصري لسنين طويلة كان من المفروض أن يؤسِّس لها دستور يليق بثورة 25 يناير: "عيش حرية عدالة اجتماعية"، لا بكلام الإنشاء لكن بمعايير ملزمة للمشرِّع. 
 
وسأقدم لكم مثالاُ بسيطًا يوضِّح الدهاء المخادِع الحاضر في ثنايا هذا الدستور: تقدِّم المادة 64 أجمل الكلمات عن العَمل والحقوق المرتبطة بالعمل إلاَّ أن تلك الفقرة تخبيء داخلها عبارة صغيرة تطيح تمامًا بكل مواثيق العمل الدولية حيث يمنح المشرِّع وضع قانون يتيح فرض العمل بالإجبار على الناس: "لا يجوز فرض أي عمل جبرا إلا بمقتضى قانون". أي أن المشرِّع من حقِّه سَنّ قانون يجيز فرض العمل جبرًا على الناس.... تمامًا كما حدث أيَّام حفر قناة السويس بالسُخرة أو كما حدث في معسكرات الحكم النازي ومعسكرات العمل بالاتحاد السوفيتي منذ عقود. وهو ما قد يحدث يومًا اعتمادًا على المبدأ الشرعي "الضرورات تبيح المحظورات". أقول هذا ولاسيما أن مشروع الدستور بأكمله لا يذكر "الإضراب" عن العمل على الإطلاق وهو ما قد يفتح الباب لتجريمه بقانون بناءًا على عبارة " لا يجوز فرض أي عمل جبرا إلا بمقتضى قانون". 
 
وتجدر الإشارة هنا إلى تأكيد الخبير الدستوري د. جابر نصار على تراجع مشروع الدستور هذا في مجال التأكيد على رفض صور التمييز القائمة في المجتمع. والسبب هو أن المادة 33 الخاصة بالمساواة هي مادة المسكوت عنه بامتياز. ذلك أنها قامت بإلغاء العبارة الشهيرة الخاصة بصور التمييز المجتمعيَّة الراسخة وهي عبارة موجودة في مواثيق حقوق الإنسان وفي دساتير مصر السابقة: "دون تمييز على أساس الدين أو الجنس أو العرق أو ... ". وهو أمر يطرح تساؤل عن السبب وراء هذا الإلغاء لعبارة دوليَّة أساسيَّة. وهكذا أصبحت المادة هلامية غير مُفعََّلة لأنها لا تشير إلى الفئات المعرَّضة للتمييز في المجتمع فاكتفت بالقول العام: " المواطنون لدى القانون سواء؛ وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك." وأغفلت العبارة التي من شأنها تفعيل المادة وهي "دون تمييز على أساس الدين أو الجنس أو العرق أو ... ".  كما يؤكد خبراء الدستور على أن السطر الأخير من المادة 81 كفيل وحده بنسف جميع الحريات التي أقرها مشروع الدستور: " وتُمارس الحقوق والحريات بما لا يتعارض مع المقومات الواردة فى باب الدولة والمجتمع بهذا الدستور." (أ. د. جابر نصار وأ.د. محمد نور فرحات).
 
ويعتدي مشروع الدستور هذا على سلطة القضاء الحالية. ولا يخفَى أن القائمين على كتابة الدستور هم أنفسهم من نفس المعسكر القائم على الحكم حاليًا ولهم موقف مُعلَن من قضاة المحكمة الدستورية العليا. وهكذا تمَّ تصميم مادة بعينها للاستغناء عن قضاة بعينهم (233) فاختزلوا عدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا (من 18 إلى 11 عضو) ووضعوا المادة بشكل يحدِّد من يبقى ومن يريدون هم أن يرحل! وعودةً إلى القضاء يقول الخبراء إنه وبالرغم من أنه يذكُر استقلال القضاء في المادة 74 إلا أنه يفعل هذا دون أن يضع معايير إلزاميَّة ضامنة لاستقلال القضاء. فأين هي الضمانات الدستورية التي تمنع أن يتعرَّض استقلال القضاء يومًا لهذه المهزلة التي تعرَّض لها في هذه الأيام في عهد أول رئيس منتخب يسمح لمؤيديه -حتى كتابة هذا المقال- بمحاصرة محكمة عليا حتى لا تصدر أحكامًا مخالفة لما يريد؟! فكَم بالأحرى بعد اعتماد هذا الدستور الذي يفتقد تمامًا للمعايير الإلزاميَّة التي من شأنها أن تضمن استقلال القضاء؟!
هذه هي طريقة هذا الدستور... إنه يضع كلام جميل مطَّاط وفضفاض وهلامي دون أية معايير تحدِّده ثم ينسِفه بعبارات أخرى قصيرة في ثنايا سطوره. كما أن بعض عباراته الفضفاضة الهُلاميَّة من الممكن أن تكون بابًا ليدخل منها استبداد الدولة حتى إلى داخل الأسرة نفسها كما هو الحال في المادة 10... واليوم ومن خلال هذا الدستور كل شيء ممكن وسيكون باسم الله وبما ينتقونه هُم وعلى هواهُم، من آلاف الصفحات التي أصبحت تكوِّن معنى مباديء الشريعة حسب المادة 219. تقول المادة الثانية: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع." وهو أمر قد استقر عليه المجتمع لـ 4 عقود تقريبًا. .  وكمثال قوي للخداع القائم في نص مشروع الدستور أنه قام  بإبعاد مادة تفسير المادة الثانية المؤسِّسة للتشريع إلى نهاية الدستور تقريبًا فجعل تفسيرها في رقم 219 في الفصل الثاني (أحكام عامة) من الباب الخامس (الأحكام الختامية والانتقالية) وهي المادة التي نصَّت على: " مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، فى مذاهب أهل السنة والجماعة.". دعونا ننتبه إلى حرف "واو" العطف في هذه المادة والذي يساوي ويجمع بين الأدلة الكلية والقواعة الأصولية والفقهية ومصادر الشريعة المعتبرة، أي كُتُب الشريعة المعتبرة، دون وضع أية معايير تحدد طريقة الانتقاء بين هذه المصادر. فمن خلال المادة 219 نسف تمامًا المقصد الأصلي لعبارة "مباديء الشريعة" أي المباديء العامة للعدل والرحمة والقصاص والربا والميراث فجعل عبارة "مباديء" تعني جميع كتب الفقه الإسلامي القديمة وجميع كتب الحديث بآلاف صفحاتها والقرآن الكريم وجميع الكتب المفسِّرة للقرآن والحديث لدى أهل السنة والجماعة... ويبيِّن الرابط الأول أسفل المقال العدد الهائل من النصوص الدينية والفقهية التي يمكن للمشرِّع الانتقاء منها! ولكن انتبهوا !!! تمَّ ذلك دون أن تحدِّد المادة 219 أيّة معايير لانتقاء النصوص التي سيتم الاستناد إليها في التشريع... وألغى تفسير المحكمة الدستورية لعبارة مباديء الشريعة الإسلامية فلم تعد تلك المباديء هي تلك " قطعية الثبوت وقطعية الدلالة فقط"! وأغفل تمامًا ذِكر أية عبارة بخصوص "مقاصد الشريعة الإسلامية" (تلك العبارة التي اعتمدها أردوغان في سياسته كرئيس وزراء لتركيا العلمانية في إطار المدرسة الإسلامية التي ينتمي إليها فتخلَّى عن الحَرف في سبيل ما هو أعمق منه). وعليه فإن مباديء الشريعة الحقيقية أي مقاصدها الأصلية كمعيار أساسي هي غائبة تمامًا عن مشروع هذا الدستور واستبدلها كاتب الدستور بعشرات الآلاف من صفحات كتب التراث والنصوص المقدسة الإسلامية  دون تحديد أي معيار للاختيار منها فيما عدا أخذ رأي مؤسسة الأزهر: مادة 4: "ويؤخذ رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف فى الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية". وبما أن مباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وبما أن مباديء الشريعة الإسلامية أصبحت حسب المادة 219 من هذا الدستور هي كل كتب الشريعة الإسلامية التي لا حصر لها... وبما أن التشريع يخص كل الأمور التي تحدث في مصر... الاجتماعية والسياسية - داخليةً كانت أم دولية... بدءًا من التعليم مرورًا بالأسرة والمناخ الاجتماعي وطبيعة المساواة وصولاً إلى طبيعة الحاكم والقائمين على الحكم والقائمين على التشريع! وهو ما يعني تحويل الأزهر لسلطة فوق جميع السلطات... قد يقبلها البعض اليوم... ولكن ماذا إذا اختلفت قيادات الأزهر واختلف منهجها؟
 
جملة القول: إنه مشروع دستور بامتياز يقوم بتحويل مصر إلى دولة دينية بنفس مفهوم دولة محاكم التفتيش في العصور الوسطى... لكن هذه المرَّة ستكون دولة دينية ومستبدة لا يخضع فيها الرئيس لمحاسبة وهؤلاء المشرِّعون الذين لا نعرف بَعد من أي تيَّار متشدِّد سيأتون في السنوات والعقود المقبلة... لن يخضعوا لأية معايير ولا لأية مباديء إسلامية ولا لمقاصد شريعة محدّدة بل يمنح هذا الدستور لهم الانتقاء الجزافي حسب "هواهُم هُم " لما يحلو "لهُم هُم" من النص الديني أو نصوص التراث دون الخضوع لمعايير سياق النص الذي ينتقونه سواء كان سياقًا دينيًّا أو تاريخيًّا أو اجتماعيًّا... فتأتي أيام قد يسمع فيها العالم من منبر مجلس الشعب ومنبر مجلس الشورى كل يوم مناقشات حول تشريع قوانين اعتمادًا على نظرة انتقائية لنصوص تؤيِّد تارةً التشويه الجنسي للفتيات (ختان الإناث) أو إبرام عقود زواج القاصرات دون التسع سنوات أو تزويجهن الفعلي عند 9 سنوات،  أو تارةً أخرى مناقشات حول فتح الدعوة للجهاد من منبر مجلس الشعب نفسه أو المطالبة على نفس المنبر بسن قانون لمضاجعة الوداع وفقًا لنصوص دينية يتم انتقاؤها... بل قد يصل الأمر إلى ارتفاع الأصوات المطالبة بتشريع أمور غريبة تمامًا عن مجتمعات القرن الحادي والعشرين استنادًا إلى انتقاء حرفي وخارج السياق وغير موضوعي، وهي فتاوٍ أصبحت منتشرة على موقع اليوتيوب.  وفي نفس الإطار سترتفع رايات التشريع بتحجيم عمل المرأة والتدخل في طبيعة عملها وطبيعة تعليمها والفصل التام بين الجنسين والتحجيب القصري للفتيات في المدارس والحضانات تشجيعًا على الآداب العامة الرفيعة غير المُعرَّفة (مادة 11)، وباسم المادة 219 قد يُمارَس التنصُّت على المواطنين في الهواتف أو الانترنت بغية حمايتهم من الاثم وتشجيع جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القيام بواجبها، أو على أقل تقدير عدم تجريم ممارساتها على غرار عدم تجريم حصار المحكمة الدستورية العليا في سبيل منع صدور حكم قضائي! وسيحفِّز هذا الدستور على ارتفاع أصوات المطالبين في مجلس الشعب والشورى بمنع غير المسلمين من الاشتراك في الخدمة العسكرية الإلزامية أو في الجيش استنادًا إلى انتقاء محدَّد لنصوص دينية معيَّنة تربط بين الجهاد والدخول في سلك الجندية وأهل الذمة! إن مجرَّد مناقشة هذه الأمور على منابر مجلس الشعب دون حتى الوصول إلى ترجمتها إلى قوانين حقيقيَّة سيكون من شأنه خلق مناخ مجتمعي يؤدي إلى تحجيم المشاركة المجتمعية لجميع الفئات في العمل السياسي وتحجيم تمثيل غير المسلمين في مجلس الشعب بما أن مناقشات مجلس الشعب ستتمحور حول المئات من النصوص الدينية الإسلامية... ويكون ذلك توسيعًا لما حدث طيلة الأربعين سنة الماضية في مجال محدَّد حين حَصَرَت وزارة التربية والتعليم تدريس اللغة العربية في المرحلتين الإعدادية والثانوية على المدرِّسين المسلمين وتمَّ فرض حظر على قيام غير المسلمين بتعليم اللغة العربية في هاتين المرحلتين بحجَّة أن منهج اللغة العربية يحتوي على الكثير من النصوص المقدَّسة الإسلامية. فهل من الممكن أن تقود المادة 219 والمادة 44 (الخاصة بحظر التعريض بالأنبياء والرسل) إلى خلق هذا المناخ التمييزي في جنبات مجلسي الشعب والشورى أيضًا طالما أن كل شيء في الفضاء السياسي سيدور بدون معايير انطلاقا من النصوص المقدسة الإسلامية والفقه الديني الذي سيصاحبه لا محالة التعرُّض بشكل أو آخر للنصوص الدينيَّة الإسلامية المنتقاة من القرآن الكريم وآلاف الأحاديث الشريفة أو من تفسيراتها أو من الكتب الفقهية المرتبطة بها؟! بل ستكون هاتان المادتان وغيرهما سيفًا مسلَّطًا على المفكرين المصريين جميعًا وأولهم المسلمون أنفسهم إذا عارضوا تيارًا سياسيًّا دينيًّا بعينه أو عارضوا مقترحاته!... ولهذا سوابق في مجتمعنا بعد أن تم تكفير د. نصر حامد أبو زيد وتطليقه قسرًا في التسعينات على أساس قانون الحسبة، وصولاً إلى يومنا هذا حيث بدأت ملاحقة الإعلامي المعارِض ابراهيم عيسى قضائيًا بحجة ازدراء الدين الاسلامي الذي ينتمي هو إليه! وهكذا بدلاً من أن يركِّز المجتمع على النهضة الصناعية والاجتماعية والعلمية وتطوير الإنسان المصري سيركِّز المجتمع على مناقشات تدور حول أمور لا تمتّ إلى نهضة مصر بصلة!
وأخيرًا ... دعني أيها القاريء المصري ودعيني أيتها القارءة المصرية أن أطرح ما هو أسوأ من هذا... ماذا لو تمَّ اتهامك في قضية ما وصدر حكم عليك بالحبس أو بالغرامة واستند القاضي في حيثيات الحكم على عبارات من الدستور وليس على قانون محدَّد تمَّ تشريعه في مجلس شعب؟؟؟ هل هذا ممكن؟ نعم ممكِن! إذ على نقيض المباديء القضائية الدولية فإن هذا الدستور يسمح للقاضي بالحكم عليك وفقًا للنص الدستوري نفسه دون الحاجة لنص القانون! تقول المادة 76 : "العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص دستورى أو قانونى، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى". نعم وفق هذا الدستور يستطيع القاضي أن يصدر حكمًا بسجنك بتهمة كذا أو كذا حسب مفهومه "هو" لأيَّة مادة دستوريَّة داخل مشروع الدستور هذا وليس استنادًا لقانون صريح تمَّ تشريعه في مجلس الشعب.  بالإضافة إلى التخوُّف الكبير من أن يمتدّ الأمر إلى استناد القاضي إلى ما تتيحه له المادة 219 من انتقاء ما يبتغيه من ضمن ما تشمله هذه المادة من آلاف صفحات التراث الدينيَّة والفقهية. وأخيرًا وإلى جانب كل ما سبق نقول إن مشروع الدستور هذا لا ينص صراحةً على أن نصوص الحريات لها الكلمة الأولى والأخيرة حين تتعارض نصوص الحريَّات مع أية نصوص أخرى فيه. فكلمة الفصْـل فيه ليست للحريَّات. 
إن أسوأ ما في هذا الدستور هو أنه دستور "مخادِع"... شاطر ومشطور من المباديء الجميلة أوالهلاميَّة وبينهما طازجٌ فاسد من كلام مسموم أو مرصوص قد يفتح الباب لحرمان مصر من هويَّتها المصريَّة السَمِحة ومن روح الطمأنينة التي نعمت بها، ويشغل المصريين بأمور قد تكون أبعد ما تكون عن التركيز على النمو الاقتصادي والإنساني للوطن... 
إنه مشروع لإغراق مصر في عصور الظلمات ويحوِّلها إلى سجن للمصريين... كُتِبَ بدهاء لصالح منتمين لأيديولوجية محدَّدة، فأخفي بين عباراته الجميلة إشكاليات تطيح بكل ما قد يبدو إيجابيًّا فيه عند النظرة الأولى. 
د. يوسف حبيب
yhabib56@hotmail.com
مراجع:
1- مشروع الدستور المطروح للتصويت:
http://egelections-2011.appspot.com/Referendum2012/dostor_masr_final.pdf
2- تعرَّف على مشاكل الدستور بطريقة تفاعليَّة:
http://shar.es/6VzU0
3- أ. د. جابر نصار: صلاحيات الرئيس في الدستور الجديد:
أ‌- فيديو عن بعض خوازيق هذا الدستور وأكذوبة تقليص سلطات الرئيس:
ب‌- صلاحيات الرئيس في الدستور الجديد
https://www.google.com.eg/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=5&cad=rja&ved=0CEcQtwIwBA&url=http%3A%2F%2Fwww.youtube.com%2Fwatch%3Fv%3DJdg9qDjaccs&ei=EZzJUMX8CcbvsgaVmYDIBg&usg=AFQjCNHgPLseYLhYC6IGtlkRRhS4my3orA&bvm=bv.1355272958,d.Yms
جـ- أكذوبة تقليص سلطات رئيس الجمهورية
http://www.akhbarak.net/articles/10383603-%D8%AC%D8%A7%D8%A8%D8%B1_%D9%86%D8%B5%D8%A7%D8%B1_%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1_%D8%B1%D9%88%D9%91%D8%AC_%D9%84%D8%A3%D9%83%D8%B0%D9%88%D8%A8%D8%A9_%D8%AA%D9%82%D9%8A%D9%8A%D8%AF_?src=%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%88%D9%82
 
4- أ. د. محمد نور فرحات:
الدستور يسمح بتحويل هوية الدولة ويعلِّق الحريات ويصنع حاكمًا مستبدًّا:
http://m.masrawy.com/Article.aspx?DataURL=egypt%2Fpolitics%2F2012%2Fdecember%2F9%2F5455621.aspx
 
5- خالد فهمي أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية: دستور يقسم المصريين:
http://www.skynewsarabia.com/web/article/58141/%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1-%D9%85%D8%B5%D8%B1--%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AF-%D8%AA%D9%82%D8%B3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D9%8A%D9%86
6- عيوب المسودة النهائية:
http://www.myegyptmag.com/articles/4934/
7- "الأجر العادل" بين مشروع الدستور ودستور البرازيل
http://www.myegyptmag.com/articles/4884/
8- رأي المستشارة تهاني الجبالي في مشروع الدستور الجديد وفي الاتهامات الموجَّهة لها شخصيًّا:
http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=hWXTyk58Qkk
9- دستور يقسِّم المصريين:
فيديو رأي البابا تاوضروس حول المادة 219 الجديدة التي تحدِّد تفسير المادة الثانية:
 
10- المصادر (الكتب) المعتبرة عند أهل السنة والجماعة:
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%83%D8%AA%D8%A8_%D8%A3%D9%87%D9%84_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D8%A9_%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%B9%D8%A9
 

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter