محمد يونس
عندما عرف مستر كلايف دردج رئيسي في العمل أنني قد نشرت عدة كتب بعضها روايات .. و البعض دراسات أو مترجمات .. قال لي ..(( دة إنت علي كدة غني جدا )) فضحكت ..
و لم أقل له أن حتي نجيب محفوظ قبل نوبل ..أو يوسف إدريس أو توفيق الحكيم.. لم يكن أى منهم غنيا .بسبب إنتاجه الفني .. .بحيث إحتاجوا لوظيفة في جريدة الأهرام يتكسبون منها ما يسدد فواتيرهم. .
الأدباء في مصر منذ زمن المنفلوطي و الرافعي كان عليهم أن يكون لهم مهنة أخرى يتعيشون منها فالأدب و الفن مهن في بلدنا لا توفر لصاحبها حياة مناسبة .إلا إذا كان العوبانا يعرف من أين تؤكل الكتف
الغريب الذى قد يفاجيء البعض أن حتي نجوم السينما و المسرح رغم المبالغ الطائلة التي يحصلها المتميزون منهم .. عادة (ما لم يستثمروا أمولهم في أعمال أخرى .. غير الفن )... يموتون فقراء ينتظرون الإعانة من الأخرين .. و مصاريف العلاج من النقابة .
لذلك تحول في كل العصور و الأزمنة ..عدد من الاسماء التي ننظر لها بإعجاب وحسد ..إلي أرزقية .. يقرضون الشعر مدحا في السلطان و ينتظرون الصرة ... فإذا تقاعس هجوه كما هجا المتنبي كافور في قصيدة مشهورة .
خلال عمرى الممتد لما يقرب من ثمانية عقود ..لم يختلف حال أغلب الأدباء و الفنانين ..إذا أردت أن تنجح و تحصل علي العمل و المال .. عليك أن تغني في الكورال الألحان التي يطلبها منك من بيده المنح و المنع .
من ضمن هؤلاء الأرزقية .. السادة.. الذين الفوا و كتبوا السيناريو و أنتجوا و أخرجوا و مثلوا عام 1963 ..فيلم ((الناصر صلاح الدين)) .. الذى اعتبره البعض مرجعا تاريخيا غير قابلة أحداثه للجدال... في حين أن الفيلم قصة تلفيقية مختلفة شكلا أو موضوعا عن ملامح ومسيرة الشخصية التي يمجدونها .
الفيلم تأليف ( يوسف السباعي ) ..سيناريو ( عبد الرحمن الشرقاوى ) ..معالجة ( نجيب محفوظ ) كوكبة من كبار أدباء ذلك الزمن..و هو من إخراج الناجح ( يوسف شاهين ) ..و إنتاج الموهوبة ( أسيا داغر )
مثل فيه أفضل ممثلين في مصر و أكثرهم تواجدا ( أحمد مظهر ، نادية لطفي ، صلاح ذو الفقار ، ليلي فوزى ، حمدى غيث ، ليلي طاهر ، عمر الحريرى ، حسين رياض ، محمود المليجي ، زكي طليمات و توفيق الدقن ).. بعضهم في أدوار متناهية الصغر
و مع ذلك و رغم علو قدر وقامة هذا الحشد و تاريخ أصحابه .الفني . إبتعد الفيلم عن أن يكون رصدا أمينا للزمن الذى دارت فيه الأحداث .. مستسلما لفكرة متهافتة بالرمز إلي ناصر آخر غير بطل العمل الفني
.
عندما قرأت ما كتبه إبن إياس عن هذه الفترة ..وقد كنت من أشد المتحمسين للفيلم و لناصر و جدت أن المؤلف و السيناريست .. قد قدما تاريخا وشخصيات لم توجد الا في خيالهما .. ليحققا للرمز ماثر المرموز به.
و هكذا
إذا قيس العمل بمنطق التاريخ فهو غير مترابط مفكك ومضلل لازال حتي اليوم يتسبب في عاهة فكرية مستديمة لعديد من الذين يعتمدون في ثقافتهم علي السينما والتلفزيون والفيديو. . تجعلهم يتصورون أن صلاح الدين الأعور الأعرج العنيف الفظ كان ببهاء و رقة و تحضرأحمد مظهر.
لن اتكلم عن تاريخ البطل المذكور في الكتب القديمة العديدة الموالية له أو المضادة .. فبعضها يمدح أو يقدح بسبب تصفيته للشيعية الفاطمية في مصر ..و إحلال السنية الشافعية مكانها
ولكن ألفت النظر كنموذج فج للتناقض والبعد عن المنطق الذى ساد الفيلم .. إلي ذلك الحدث الذى ذهب فية صلاح الدين لريتشارد قلب الأسد في خيمته حتي ينقذه..بعلمه و طبه ..و فروسيته من الموت مسموما
فصلاح الدين و ريتشارد لم يتقابلا أبدا هكذا تقول كتب التاريخ .. كل ما حدث عندما مرض الملك الإنجليزى في يافا و ليس أمام أسوار القدس .. أرسل له صلاح الدين طبيبه إبن ميمون و مدة بالثلج لوقف الحمي و الفاكهه لعلاج سوء التغذية
و مع ذلك صور المخرج لنا (الناصر)علي أساس أنه شخص جسور إخترق صفوف العدو و ذهب لملكهم في عرينه متحديا الحراسات ..لعلاجه .. و أنه مثقف يتقن الحديث بلغة الخصم ، عاقل ،عالم بفنون الطب و الكيمياء ، محب للسلام ، مفاوض بارع .. في حين أن هذا الصلاح كما وصف إبن إياس..كان شخصا دموبا عنيفا ..عندما دان له حكم مصر
(( بدأ بشنق جماعة من الأعيان ثم قبض علي مؤتمن الجيش وقتله فلما ثارت عليه العبيد و كانت جملتهم خمسين ألف عبد حاربهم لمدة يومين فقتل منهم ما لا يحصي ، ثم أنه أزال ما كان بمصر من العسكر الملفقة وكانوا من بين صقالبة ومصامدة وأرمن ..)) .. ثم أنه (( ذهب الي الصعيد وقتل هناك نفس الأعداد من المماليك والعرب)) .
.ثم ترك علي حكم البلاد عامله الخصي قراقوش الذى أصبح بعد ذلك نموذجا للتجبر المصحوب بقلة العقل و غياب المنطق .. يهد الإهرامات و يحلب البلاد بحمق (حتي صار مثلا علي الظلم ) لصالح سيده المتحرك بعسكره من مكان لآخر . حتي مغادرته الدنيا عن سبعين سنة..
فهل هذا الديكتاتور الذى جعل آخر الخلفاء الفاطميين العاضد ((كالمحجور عليه لا يتصرف في شيء من أمور المملكة حتي يعرضهاعليه)) فينتحر قهرا كان بإمكانه ان يدير حوارا متحضرا مع ريتشارد. يقنعه بالسلام و الحج ثم العودة إلي وطنه خالي الوفاض .
إنها أوهام للاسف رسخت في الاذهان بعبارات عبد الرحمن الشرقاوى الفخمة .. هدفها تجميل وتزويق شارك فيه أفضل الفنانين في ذلك الزمن لجعل الرمز و المرموز نموذجا، و الحصول علي ما يسمح لهم بمزاولة الحياة .. في أمن و أمان ..
لا تصدفوا التاريخ المزوق الذى يعرضونه في السيما سواء كان قديما مثل وإسلاماه .. أو حديثا مثل .... نسيت إسم الفيلم أو المسلسل ..لكن إنتم عارفينه .. من إنتاج المتحدة .
محمد يونس