عادل نعمان
تزاحم المصلون على الحلاج يبكون فى مسجد المنصور ببغداد حين قال قولته تلك، قالوا له: كيف نقتل رجلا يصلى ويصوم ويقرأ القرآن، يجيبهم الحلاج: «ليس فى الدنيا للمسلمين شغل أهم من قتلى» يتساءلون: كيف الطريق إلى الله يا حلاج؟ يرد: الطريق بين اثنين وليس مع الله أحد، وأنشد يقول: (أنا من أهوى ومن أهوى أنا.. نحن روحان حلنا بدنا.. نحن مذ كنا على عهد الهوى... فإذا أبصرتنى أبصرته.. وإذا أبصرته أبصرتنا) آه أيها الحلاج الشقى كيف يفهم الناس هذا «الحلول»؟ وكيف يحل الله فيك، وتصبح أنت وربك فى حلة واحدة؟، وكيف يرى الناس هذا الاتحاد؟ ويتحد الله معك، وتصبحان وتمسيان فى واحد؟، إلا إذا اتهمت بالكفر والزندقة، ستجلد ألف سوط يا حلاج، وتقطع يداك ورجلاك، وتحز رأسك وتحرق بقاياك، وتقلب على الجمر حتى تصبح رمادًا ويلقى به فى نهر دجلة، ثم تعلق رأسك على الجسر يومين وتحمل إلى خراسان ليطوفون بها فى الشوارع وسط بكاء المريدين، لتكون عبرة لمن يحب الله كما أحببته، ولمن يرى الله كما يحب أن يراه الله، يا حلاج ليس فى الحب مجاز، وليس فى العشق ذوبان، لست مع الله إذا رفض الخليفة وكان له رأى آخر.

والحلاج هو «الحسين بن منصور بن محمى البيضاوى» اختلف الناس فى بلده ومنشئه، قالوا: من نيسابور، ومن قال: من بيضاء فارس، ومنهم قائل من الرى، وسمى بالحلاج على روايتين: الأولى أن أباه كان يعمل فى حلج القطن، والثانية أنه يخبر الناس بأسرارهم ويكشف خباياهم ولذلك سمى «حلاج الأسرار». يرتحل وأسرته إلى البصرة ويتعلم العربية ويقضى الحلاج صباه يتعلم القرآن الكريم، يلبس الحلاج خرقة الصوفية على يد «عمرو بن عثمان المكى» وهى قطعة ثوب ممزقة خشنة يكسوها شيخ الطريقة على المريد بعد أن يجتاز فترة فى التصوف بنجاح «وهى رمز الانخلاع عن الدنيا» ليصبح من رموزها والمرموقين فيها، يعتزل الحلاج الناس كثيرا فى جامع البصرة للعبادة والتأمل وقراءة القرآن. ومن الصدف الغريبة التى عجلت بنهايته لما طور التصوف وفلسفته من تأمل الذات «أهل الباطن» والانعزال والعزلة، إلى محاولة إصلاح واقع عصره، وجهاده لرفع الظلم عن المظلومين، ومنهم«الزنج» وهى حركة تضم العبيد والفقراء والمستضعفين المناهضين للدولة العباسية، والتى كانت على اتصال بالقرامطة للنجاة على أيديهم من ظلم العباسيين كما ظنوا، فقد عجل باتهامه بالكفر والزندقة والأنكى اتهامه بالقرمطة «يساند القرامطة ضد العباسيين» وفتح على نفسه نيران عباسية لا تدع ولا تذر.

وصفه الناس ونعتوه بصاحب الكرامات والمعجزات، وخارق قوانين الطبيعة، وساحر وكاشف أسرار الناس، ومن كراماته «كما زعموا كذبا» يخرج فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء فى الصيف، ويمد يده إلى السماء فيعيدها مملوءة دراهم، ويخبر الناس بما أكلوا، ويشفى المرضى بالرقية، وزادوا وعادوا عليه «فمن ادعى أنه قد رسم مركبا على حائط السجن حين كان سجينا وطالب المحبوسين الركوب على بركة الله وغابوا جميعا» ومنهم من زعم أنه قد حلج أطنانا من القطن لما نظر إليها فانفصل البذر عن القطن، وخوارق كثيرة الغريب أنها تتداول بين المريدين كغيره من أهل الصوفية وأصحاب الخطوة وكأنها حقيقة مؤكدة وهى خارج حدود العقل.

ولقد أجمع فقهاء عصره على كفره لأنه ادعى الألوهية والنبوة وممارسة السحر والشعوذة والكهانة والحلول والاتحاد، وفى هذا يفتى ابن تيمية «فلا خلاف بين الامة أن من قال بالحلول والاتحاد بالبشر فهو كافر مباح الدم ولذلك قتل الحلاج. انتهى.. ياشيخنا لو قال الحلاج أكثر من ذلك آلاف المرات دون تهديده للخليفة جعفر المقتدر ومطالبته برفع الظلم عن المظلومين واتصاله بالقرامطة ما لمسته يد الخليفة بسوء. واسمع ما قاله أبو حامد الغزالى فى تبرئته للحلاج «الحلول والاتحاد» (فقوله:«أنا الحق» أو قوله:«سبحانى ما أعظم شأنى»أوقوله: «ما فى الجبة غير الله» هو كلام العشاق حين السكر، يطوى ولايحكى، ليس اتحادا بل شبه اتحاد كالعاشق حال فرط عشقه «أنا من أهوى ومن أهوى أنا» هو والمعشوق فى واحد) ثم تعالى لترى كيف يسخر صلاح عبد الصبور من تقديم الحلاج إلى محكمة معدة ومجهزة للنيل منه يقول: (صفونا..صفا..صفا. الأجهر صوتا والأطول.. وضعوه فى الصف الأول.. ذو الصوت الخافت، والمتوانى.. وضعوه فى الصف الثانى.. أعطوا كلا منا دينارا من ذهب قانى.. براقا لم تلمسه كف من قبل.. قالوا: صيحوا.. زنديق كافر.. صحنا.. زنديق كافر) لم يقتل الحلاج على تصوفه وشطحاته بل أهلك لمعارضته العباسيين، وكذلك يفعلون.

«الدولة المدنية هى الحل».
نقلا عن المصرى اليوم