مصر تمر ربما بأسوأ محنة منذ انقلاب 1952 (نقطة بداية سلسلة الكوارث والديكتاتورية والفساد) منحدرة نحو مصير لم يحلم به أكثر المتشائمين.
والمأساة ليست فقط في سحب الأمة إلى تخلف القرون الوسطى ومستنقع كراهية الحداثة والتقدم، بل تطبيق خطة التضحية بالوطن في سبيل أممية الخلافة. الأفعال قبل الأقوال تشير إلى عملهم من أجل التنظيم العالمي لا مصر؛ كالصفقات مع أميركا ومع من سمتهم أدبيات «الإخوان» بالاستعمار والصهاينة، وأعداء الإسلام.
هل يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تتمكن الجماعة من تفكيك الدولة وإضاعة سيناء (لحساب من سماهم رئيسهم بأبناء عشيرته مبررا منحهم الطاقة المدعومة من دافع الضرائب المصري الذي يواجه تكرار انقطاع الكهرباء لأول مرة منذ الحرب العالمية)؟
ما يعطل رسم استراتيجية لإنقاذ مصر من الكارثة ثلاثة عوائق رئيسية: التوقيت؛ القراءة الخاطئة للتاريخ؛ والثقافة السياسية الفكرية للتيارات المناهضة لـ«الإخوان».
بالنسبة للتوقيت، مصر قطار يندفع على قضبان أهمل صيانتها، والسائق مشغول بالمليونيات والفرامل لا تعمل، وبلا توقف في محطة لا يمكن رسم استراتيجية الإنقاذ.
العائق الثاني سوء قراءة التاريخ بدعوات الدخول في «حوار اجتماعي» مع «الإخوان»، والاعتقاد بأن كشف عباءة القدسية الدينية التي تسربلوا بها من تفصيل ترزي ملابس الإمبراطور سيقنع منظريهم، كحزب سياسي، بمراجعة آيديولوجيتهم لتناسب الواقع المصري.
إمكانية تغيير «الإخوان» لآيديولوجيتهم تمشيا مع الواقع (الحالي المصرين على تغييره) كإمكانية تحول النمر نباتيا فيشارك الأرنب وجبة الجزر والخس بدلا من التهامه كوجبة طازجة.
الفوز بالحكم لم يقنع الجماعة بتصرف مسؤول (كالجيش الجمهوري الآيرلندي مثلا) والاعتذار للشعب عن القتل وتفجير دور السينما واغتيال القضاة - حسب روايات تاريخية - (ولو ادعاء براغماتيا بمراجعة الأخطاء) لأن أساسهم الآيديولوجي وأسلوبهم الذي رسمه سيد قطب (السبب في حظر نشاطهم تحت كل الحكومات حتى أثناء العهد الديمقراطي قبل 1952) يبرر هذه الأعمال وممارسات لا إنسانية واغتيالات؛ وهي آيديولوجية تضعهم فوق الجميع واعتبار أنفسهم من فصيل الإنسان السامي superman (كآيديولوجية هتلر في تفوق الجنس الآري التي بررت إهلاك الآخرين من أجل مستقبل أفضل) وترويج ثقافة أن إيمانهم جعل الله يضعهم فوق الجميع.
آيديولوجيتهم التأسيسية تسحق حرية الفرد في الاختيار؛ وتتجاوز جوهر الدين (كونه ملهما لسمو الإنسان بنفسه اختياريا) إلى تبرير العقيدة لفرض أسلوب حياة، من مأكل ومشرب وملبس وثقافة قسرا على الفرد. آيديولوجية تبرر إصدار قوانين تتحكم في أدق تفاصيل حياة الفرد (رأينا الواقع في إيران وأفغانستان الطالبان).
تخلي «الإخوان» عن الآيديولوجية الشمولية سيفقدهم هويتهم التي تمكنهم من تجنيد الأعضاء وزيادة شعبيتهم والحصول على التمويل لأنها، كهوية، تحميهم من تشكيك ملايين المسلمين الطيبين في النوايا الخفية.
وتقديس حرية الفرد كأساس ديمقراطي، تاريخيا، يقي مجتمعات كبريطانيا (رغم صياغة ماركس لنظريته فيها) من السقوط في فخ الشمولية.
العائق الثالث هو أغلبية التيارات السياسية الأخرى التي تقدم نفسها كبديل لـ«الإخوان».
انتهاك الرئيس و«الإخوان» للقانون والقضاء والدستور، وحّد التيارات العلمانية والليبرالية والقومية المصرية والمسيحيين ككتلة يمكن أن تفوز انتخابيا بأغلبية مقاعد البرلمان، لكن الثقافة السياسية لأغلبية القادة تعجزها عن الاضطلاع بمهمة رسم استراتيجية الإصلاح الديمقراطي لإنقاذ مصر من المحنة. وغياب تقديس حرية الفرد (كأساس للديمقراطية) عن فكر قادة التيارات العلمانية أحد أهم أسباب عدم تبلور أهداف ثورة 25 يناير قبل أن يخطفها «الإخوان»، والخلل الفكري المعرقل لتشخيصهم للداء لإيجاد الدواء.
وإذا كان الإيمان الدوغماتي الأعمى بسلفية لا يلائم جمودها متطلبات العصر واحدا من سلبيات «الإخوان» ومن ولد من رحمهم، فإن غالبية العلمانيين والليبراليين المناهضين لهم سلفيون أيضا.فالناصريون كتابهم المقدس الفكر الناصري القومي الاشتراكي (النازي في جوهره) وسلفهم الصالح دولة الستينات البوليسية الشمولية بكراهيتها للغرب. العروبجيون الوحدويون (الفرع البعثي من الناصرية) في غيبوبة الوحدة والعروبة التي أنجبت ديكتاتوريات غاشمة كالقذافية والبعثين العراقي والسوري وأهدرت الدماء والموارد في احتلال الكويت والحرب العراقية الإيرانية والحرب الأهلية في لبنان، وإبادة الأكراد بالغاز السام وتبرير الإرهاب. الماركسيون الشيوعيون يعيشون سلفية جدار برلين والاتحاد السوفياتي والعودة للأممية الثالثة والرابعة والخامسة.
ثقافة هذه التيارات شمولية ساحقة للفرد انتشرت أفقيا في الشعب المصري، ورأسيا بعمق نصف قرن. أجيال تأدلجت عقولها لكراهية الآخر وحرمان الفرد حقي الاختيار والتفكير المستقل.
الدولة البوليسية الناصرية لم تكتف بتحويل مدارس وزارة المعارف إلى تدجين التربية والتعليم، بل دمرت ثقافة التعليم الجامعي.
منذ تأسيس الجامعة المصرية قبل 120 عاما، وإرهاصاتها المعاهد العليا (بدأها القرن 19 رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وتوسع فيها الخديوي إسماعيل) والتقليد اختيار كل كلية للطلاب (الملائمين عددا وذهنيا وتقبلا) للالتحاق بها وفق نماذج مثل اجتياز مواد ملائمة في امتحاني الثقافة والتوجيهية، وجودة المراسلات مع الطلاب المرشحين ومقابلات تقدير الشخصية مع هيئة التدريس. ألغى الكولونيل ناصر التقليد وأنشأ سيركا تهريجيا اسمه «مكتب تنسيق القبول الجامعي»؛ ليعامل حاملي الشهادة الثانوية كقطيع بلا شخصية أو إرادة؛ مجرد أرقام على كشوف يوزعهم الكومبيوتر (متجاهلا الفرد والمعهد) على كليات مرغوبة بهستيرية جماعية كالطب والصيدلة والهندسة ويتذيل القائمة كلية الحقوق التي خرجت أعظم ساسة مصر (مصطفى كامل، وسعد زغلول، ومكرم عبيد، والنحاس باشا، مثالا لا حصرا).
تذهب «الزحمة» إلى الجامعة، كمجرد مدرسة، بعد فقدان الثقافة الأساسية للدراسة الجامعية وهي تدريب الفرد على مسؤولية الاختيار الحر (كحضور المحاضرات أو تحمل مسؤولية التخلف عنها) بعد تحرره من قيود الفصل الدراسي واليونيفورم، وتعلم الإتيكيت الاجتماعي كالاختلاط بالجنس الآخر، وثقافة البحث الذاتي والنشاط الرياضي والفني الاختياري (خارج المنهج) وإنتاج صحيفة طلابية مستقلة ومسرحيات والموازنة بين الجد واللهو والدراسة والترفيه. ثقافة قضى عليها مكتب التنسيق، ففرخت الجامعة ثلاثة أجيال شمولية استأصل مفهوم الاختيار الفردي من عقولها.
معظم قيادات التيارات العلمانية، كبديل لـ«الإخوان»، من أجيال ثقافة مكتب التنسيق «اللاجامعية». وفاقد الشيء لا يعطيه، فهم العائق الثالث ضد إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصر.
واللغز الملفوف في معضلة داخل «فزورة» هو العثور على مفتاح إعادة تثمين الفرد المصري وتقديس حريته كطوق نجاة للأمة المصرية من الغرق في الهاوية التي سيسقط فيها القطار المندفع بلا فرامل.
نقلاً عن الشرق الأوسط
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع