بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر

يقول يوسابيوس القيصري إنه لما إزداد إنتشار هذه الأنباء في كل مكان تقدم ستة من الشبان، وهم تيمولاوس من أهل بنطس، وديونيسيوس من طرابلس في فينيقية، وروميلوس وهو شماس مساعد في أبروشية ديوسبوليس وبيسيس والاسكندر وهما مصريان، وشخص آخر باسم الاسكندر من غزة. وإذ أوثقت أيدي الجميع أولاً، ذهبوا مسرعين إلى أوربانوس الذي كان موشكاً أن يفتح المعرض، وأظهروا حماسة شديدة نحو الإستشهاد وأعترفوا بأنهم مسيحيون، وبترحيبهم بكل الأهوال أظهروا أن الذين يفتخرون بديانة إله الكون لا يخورون أمام هجمات الوحوش( ).

وللحال طرحوا في السجن بعد أن بعثوا إندهاشاً عجيباً جداً في نفس الوالي والذين معه، وبعد أيام قليلة أضيف إليهم اثنان آخران، أحدهما اسمه أغابيوس، وقد تحمل في إعترافات سابقة وأهوالاً مروعة في أشكال منوعة، والثانى اسمه ديونيسيوس، جميع هؤلاء الثمانية قطعت رؤوسهم في يوم واحد بقيصرية، في اليوم الرابع والعشرين من شهر مارس ( ).
 
معترفيين محجر بروفيري :
وظلت العاصفة هائجة ضد المسيحيين، وقبل هذا الوقت كان هنالك عدد وافر جداً من المعترفين بالإيمان في المحجر الذي يسمى بروفيري بطيبة، والذي اشتق اسمه من الحجارة الموجودة هناك، من بين هؤلاء أرسل للوالي بالاراضى المقدسة سبعة وتسعون رجلاً مع النساء والأطفال، ولما اعترفوا بإله الكون وبالمسيح أمر فرمليانوس، الذي كان قد أرسل إلى هناك والياً مكان أوربانوس، بأن يتم تعجيزهم بحرق عضلات مفصل القدم الأيسر، وأن تقلع العين اليمنى ثم تحرق حتى القاع بقضبان حديدية محماة، وهذا بناء على تعليمات الإمبراطور، وبعد ذلك أرسلهم إلى المناجم في ذلك الإقليم، ليعانوا مشقة العمل القاسي، والآلام العنيفة.

على أنه لم يكتف بأن يعاني هؤلاء فقط تلك الآلام بحرمانهم من أعينهم، بل امتد طغيانه إلى أهل الاراضى المقدسة أيضا، الذي سبق أن ذكرنا أنهم حكم عليهم بمصارعة الوحوش وقضى بعدم تقديم أي طعام إليهم من المخازن الملكية.

وبعد أن ظل هؤلاء الشهداء في السجن سنتين كاملتين وصل بعض الأخوة من مصر وقت إستشهادهم واشتركوا معهم في عذابهم وكانوا قد رافقوا المعترفين في كليكية للعمل معهم في مناجمها ثم شرعوا في العودة لأوطانهم وفي مدخل أبواب قيصرية سألهم الحراس - وكانوا ذو أخلاق شرسة - عن شخصيتهم والمكان الذي قدموا منه فقالوا الحق فقبض عليهم كمجرمين متلبسين بجريمتهم، وكانوا خمسة ولدى مثولهم أمام الطاغية أظهروا أمامه منتهى الجرأة فدفعوا إلى السجن في الحال وفي اليوم التالي قدموا إلى القاضي ومعهم بمفليوس ورفاقؤه السابق ذكرهم وفي بداية الأمر أختبر ثبات هؤلاء المصريين الذي لم يلين وذلك بكل أنواع التعذيب وبإختراع آلات غريبة متنوعة( ).

واشترك معهم معترفون آخرون في مدينة قيصرية إذ أبدوا ثباتاً عجيباً جداً في إعترافاتهم بتحمل الجوع والجلدات العنيفة، نالوا قصاصاً مماثلاً لأولئك السابق ذكرهم ولكن بعد ذلك بفترة وجيزة، عانى مائة وثلاثين بطلاً من أبطال الإعتراف بالمسيح، وكانوا من أرض مصر، نفس الآلام في أقدامهم وأعينهم مع  الأشخاص السابقين، وذلك في مصر نفسها، وبأمر مكسيمينوس، ثم أرسلوا إلى المناجم السابق ذكرها في الاراضى المقدسة، ولكن بعضاً منهم حكم بالشغل في مناجم كيليكية ( ).

الأسقفان المصريان ومن معهما :
جمع الولاة عدداً عظيماً من المعترفين وأتوا بهم إلى منجم النحاس في الاراضى المقدسة وكان من بينهم بيليوس ونيليوس وهما أسقفان مصريان وكانا يتصرفان بجراة عظيمة حتى أنهم بنوا أماكن للعبادة، وكان حاكم الإقليم رجلاً شريراً قاسيا في تصرفاته مع الشهداء والمعترفين ولذلك لما أتيا إلى هناك وعلم بما فعله الأسقفان نقلها إلى الإمبراطور وكتب معها سيل من الأتهامات، ولأنه كان قد عين مشرفا على المنجم قسم جماعة المعترفين كما لو كان بأمر ملكي وأرسل البعض للإقامة في قبرص والبعض في لبنان وشتت آخرين في أنحاء مختلفه في الاراضى المقدسة، وأمرهم بالعمل في أعمال مختلفه .
وأختار الأربعه الذين بدا له أنهم هم القاده، وأرسلهم الي قائد الجيوش في ذلك الاقليم، وهؤلا الأربعه هم بيليوس ونيليوس وهم الأسقفان مصريان، ثم قس، وشخص آخر يدعي بترموثيوس، كان معروف بغيرته نحو الجميع، فأمرهم قائد الجيش بإنكار الإيمان، ولما رفضوا حكم عليهم بالموت حرقا ( ).

شهـداء مصريين في الأراضى المقدس :
وفي الحادي عشر من ديسمبر، ألقى القبض ثانية على بعض أشخاص من مصر بمعرفة من كانوا يفحصون كل من يجتاز الأبواب، وكانوا قد أرسلوا لخدمة المعترفين في كيليكية، فحكم عليهم بنفس الحكم الصادر ضد من أرسلوا لخدمتهم، إذ شوهوا في عيونهم وأقدامهم، وقد أظهر ثلاثة منهم في أشقلون، حيث سجنوا، واظهروا شجاعة عجيبة جداً في تحمّل أنواع العذابات المختلفة، حكم على أحدهم - واسمه ارس - بالطرح في النار، وقطعت رأسا الباقيين، وأسمهما بروبس والياس( ).

يوحــنا المصـــري :
ويسجل يوسابيوس في إعجاب، خبراً عن شخص يدعى يوحنا، وهو أحد المعترفين المصريين الذي أثار إعجابه لدرجة كبيرة، أما موضع إعجاب يوسابيوس فكان قوة إحتماله، وقوة ذاكرته في حفظ الأسفار المقدسة، فضلاً عن العذابات التي إحتملها ومنها: فقد بصره، كي قدمه بالنار حتى تلفت، وطرحه في النار، ونستمع الأن إلى أوسابيوس وهو يصفه: " لقد فاق يوحنا ابناء عصرنا في قوة الذاكرة، نقش أسفار كاملة من الكتاب المقدس، لا في ألواح حجرية كما يقول الرسول المبارك، ولا على ورق حيوانات، ولا على ورق يبليه السوس والزمن، بل على ألواح قلب لحمية، في نفس نقية شفافة، وفي بصيرة القلب الطاهرة، حتى بذلك يمكنه أن يستعيد أية فقرة من الكتاب، سواء من الناموس أو الأنبياء أو الأسفار التاريخية أو الأناجيل، أو كتابات الرسل، في أي وقت أراد، كما من كنز ملئ بالكلمات، وأعترف بأنني ذهلت عندما رأيت الرجل لأول مرة، إذ كان واقفاً وسط جماعة كبيرة يردد بعض فقرات من الكتاب المقدس، وعندما سمعت صوته فقط خُيل إليّ أنه كان يقرأ (من كتاب) حسب العادة المتبعة في الإجتماعات، ولكن لما اقتربت منه وأدركت ما كان يفعل، وشاهدت جميع الباقين وقوفاً حوله بأعين سليمة، بينما كان هو لا يستخدم سوى عيني قلبه، ومع ذلك فكان يتكلم طبيعياً كنبي، ويفوق جداً سليمي الأجساد، كان من المستحيل أن لا أمجد اللـه، وأدهش كل الدهشة … لأنه بجسمه المشوه أظهر سمو وعظمة القوة التي كانت بداخله " ( ).