بقلم: صبري فوزي جوهرة
أبرز اختلاف الرأي بين المعلقين الأقباط بين مؤيد و معارض لمبدأ وضع "كوته" للتمثيل في المجلس النيابي القادم أمرًا أكثر أهمية و خطورة من السؤال موضع البحث نفسه وهو: بفرض أن هناك أساسا من سيستمع لما يقوله الأقباط في هذا الشأن أو غيره مما يجرى في شئون الوطن, و بفرض حسن النية من الحكام الحاليين فأي من الرأيين المتعارضين سيؤخذ به؟
أفاق القبط في ستينات القرن الماضي من غيبوبة مكثت لعدة قرون باحثين عن حقوقهم المهدرة في وطنهم، بدأت اليقظة بفعل و زعامة أفراد نبلاء قليلين أمثال الدكتور شوقي كراس و رجال عظماء آخرين من رفاقه, ثم في تصاعدت وتيرة الكفاح على مدى السنوات الأخيرة من القرن العشرين و إلى الآن بمشاركة جموع كبيرة من الشعب القبطي خارج مصر أولا ثم في داخلها بعد ذلك حتى سمع العالم بأسره بالمظلم التي تحيق بمسيحيي مصر, فاهتزت دعائم حكم مبارك تحت استنكار الرأي العام العالمي لمأساة حادث كنيسة القديسين, كما انه من المسلم به أيضا أن أقباط مصر هم من أشعلوا الشرارة الأولى لثورة 2011 عندما تظاهروا سخطا على أحداث الطالبيه إلى أن سقط المطنش الأكبر غير مأسوف عليه، أحرز الأقباط هذا دون قيادة سياسية حقيقية أو موحدة وهو حدث نادر فى مجريات السياسة.
ثم, و لشديد الأسف, انتهى الأمر الثورة بان وقعت بين براثن المطززين و أنيابهم. فتعاظمت الأخطار على مصر و المصريين جميعًا، و كما كان الأمر في الماضي, كان نصيب الأقباط من الآلام و الاضطهاد و محاولات التهميش مضاعفا كما و كيفا، و لكنهم لم يركنوا إلى الصمت كما كان الأمر في سابق العهود بل تعالت أصواتهم و بزغ بينهم شباب دهس بمدرعات جيش الوطن "الباسل" و سمعت صرخات الجميع في كاكوفونيات غير هارمونية امتزجت فيها نبرات شريفة غاضبة مع زفرات بعض الباحثين عن الشهرة أو النفوذ لدى طواغيت مصر الجدد، و لكن بقى الوضع المؤسف على ما كان عليه: شعب ثائر يأبى الظلم والإجحاف بلا قيادة موحدة تتقبلها الأغلبية فتعطيها بذلك الشرعية التي لا غنى عنها للقيام بأي عمل سياسي فعال و مؤثر.
ظهرت إحدى أعراض هذا الخلل الجسيم أخيرًا عند عرض مسألة "كوته الأقباط" في المجالس النيابية،وهنا دعني أعلن أولا إنني , وبكل تواضع, من مؤيدي الالتزام بمثل هذه الكوته ليس فقط في البرلمان, بل في جميع مؤسسات و هيئات وأعمال و وظائف و جامعات الدولة و قواتها المسلحة و قوات أمنها الداخلي، الأقباط مصريون بلا شوائب. ليسوا بالدخلاء أو الواردين أو اللاجئين أو المهاجرين أو المتسللين أو "المتمحكين" أو المطززين أو ممن يدعون الانتساب إلى بلاد أخرى أو التمثل بعاداتها أو شرائعها الضارة البالية، كما أن ليس في طلب التمثيل النيابي أو النصيب العادل من الوظائف التي حرموا منها بدون وجه حق لعقود طويلة ما يدعو إلى القول بان في ذلك إثارة للتقسيم أو للعنصرية أو الفئوية، لم يثير احد هذه الاعتراضات "التلكيكيه" عندما خصصت كوته للمرأة، فهل نساء مصر عنصريات؟ و هل يحق لأحد أن يتهمهن بعدم السعي لخير البلاد؟
و إذا كان البعض من القبط ممن سبق و واجهوا هذا الأمر في الماضي قد اخطئوا برفضهم الكوته, فالخطأ لا يصحح بآخر. و إذا اعدنا ذات السلوك فسينتهي بنا الأمر الى ذات النتائج المؤسفة. كلنا نعرفو حصيلة ما حدث بعد رفض الكوته و هو ما رأيناه بعد انقلاب العسكر و استيلاء المتعصبين و الجهلة و ذوى الأصول الاجتماعية المتدنية على الحكم منذ 1952 و إلى الآن: تكاد أن تخلو جميع الدورات البرلمانية من الأقباط إلا من قليلين مكبلين بإحسانات الدكتاتور لا قدرة لهم أن "يفتحوا عينهم" فيه أو أمام جبروته، لست ادري حقيقة ما دفع الرافضين للكوته عند كتابة دستور 1923 لارتكاب هذه الحماقة. هل كانت مزايدة خرقاء لإظهار "الوطنية" أم أنهم كانوا يعلمون مسبقا أن الكوته لن ترى النور, حتى فى ذلك العصر الذي أطلقت عليه صفة الليبرالية, ف"احترموا نفسهم" و تظاهروا بالرفض و "عملوها بجميله"؟
يعلم الجميع ما حدث بعد ذلك. و كثيرا ما تساءلت عما عسى أن يكون مصير مصر و شعبها, مسلمين و أقباط, لو استمرت مساهمة الأقباط الفعالة في إدارة شؤن البلاد إلى الآن؟ هل كانت ستنحدر إلى الهاوية التي سقطنا فيها ؟ ربما كان الشعب اللاهث وراء كيس سكر أو "قزازة زيت" قد نعم بتعليم أفضل فاستطاع التفرقة بين الغث و الثمين و الحق و الباطل و الزعامة المخلصة و الديماجوجية الجوفاء التي تتحلى بشعارات القومية الفارغة تارة أو التدين الكاذب دائما. لعل المصري كان سيتحلى بوعي أعمق تحت حكم اقرب إلى الديمقراطية السليمة فيتخلى عن التعصب المقيت و يدرك أن مصير الوطن لا يستبدل و لا يستعاض عنه بمثل هذه الرشاوى البذيئة. و هل كان من المستبعد أن تكون مصر عندئذ في مثل وضع دولة متوسطية مثل ايطاليا أو اسبانيا بدلا من الانجراف جنوبا إلى تيارات الصومالية؟
لم اسطر كلماتي هذه أساسا للدفاع عن "الكوته". خاصة كوته مجلس نيابي لا حول له ولا قوة و لا "لازمه" واقع تحت براثن المطززين الذين برعوا فى فرض, أو قل "دحش", برامجهم الأنانية على المصريين جميعا, من شاء منهم و من أبى, بأساليب القهر و التلون و الخداع و الكذب و المداهنة و المناورة. و لكن, و بالرغم من هذا, فان الوجود القبطي فى مثل هذا المجلس يؤكد ان للأقباط حصتهم و حقهم فى مصر, و ربما استطاع إلى حد ما أن "يفرمل" الاندفاع الجنوني نحو أسلمه الدولة, كما انه سيعطى البناء التحتي اللازم لإعادة مشاركة الأقباط في السياسة و ممارستهم الأمينة المخلصة لها بما يعود بالنفع على مصر و كل شعبها.
كل ما سبق كان "كوم" و ما سأعرض الآن كوم آخر: حتى إذا سلمت النية و عقدت على احترام, أو مجرد معرفة, رأى الأقباط الحر في مشروع الكوته, وكما هوالامر مع أية جماعة واعية مفكرة, سيكون هناك تنوع و تعارض فيما بينهم من وجهات النظر. منهم من سيؤيد و منهم من سيعارض, فما السبيل للوصول إلى قرار؟ الرد الطبيعي هو تبنى رأى الأغلبية بينهم (آسف لاستعمال كلمة "تبنى", أنا عارف أن مافيش حاجه اسمها كدا في الإسلام, وان ربما بعض الأخوة المسلمين عندهم حساسية منها, بس الكلمة دى هى المضبوطة في هذا الموضع و بصراحة عجبتنى!). فيا أيها السادة مدعى زعامة الأقباط حتعملوا إيه لو سألوكم؟ هل توصلتم للرد؟ المشكلة الأساسية تطفو على السطح عند قول الحقيقة: فلم يسعى "زعماء" الأقباط لمعرفة رأى الشعب و لم يصلوا إلى قرار فيما بينهم وذلك لسبب بسيط هو أن الشعب لا يرى زعماء و لم يسمع عنهم, بل يعرف أسماء يظن أن بعضها لرجال و نساء مخلصين و جادين في البحث عن حلول لمأساتهم, و بعضهم "بيهوبص" ليسد عين اى كاميرا تقف في طريقه ليتملق خلالها مطززي مصر بحثا عن منصب قد يخلع عليه. و عاوزين المطززيىن و السلفيين يسألوا فينا بعد كدا؟ كل سنة و انتم طيبين. و قس على ذلك كل ما تسمع شكاوى من الأقباط إلى أن يكون لهم كيان سياسي شرعي يعبر عن أغلبية أرائهم.
و بالمناسبة, أنا لا أعارض ولا اتهم و لا ألوم السادة أعضاء مجلس الشورى الأقباط المعينين. ففي وجودهم فى هذا الموقع اعتراف و تسليم من اشد الجماعات عداوة للأقباط و خطورة على مصر انه مهما شتم الشاتمون و مهما انحط فكر المتعصبين فللأقباط حق و نصيب في مصر، و بالتالي يجب أن يكون لنا تمثيل حتى في هذه التمثيلية إلى أن يفرج ربنا علينا بحاجة " بحق و حقيقي".