لا يمكن لأحد أن يتصور طبيبا ناجحا يضع مخططا هندسيا لبناء عمارة، ويحدد كميات الأسمنت والرمل والزلط المطلوبة، ولا يمكن لأحد أن يتصور مهندسا مرموقا يرتدى روب المحاماة ويقف فى محكمة مترافعا عن متهم.
لكن هذا الذى لا يمكن تصوره، ولا حتى فى سينما اللامعقول، قد وقع بالفعل، والمدهش أنه تكرر أكثر من مرة، بين ترحيب وتصفيق من الجميع.
شيخا أزهريا وقورا ورصينا يتصدى مرة لصياغة ما سمى فى حينه «وثيقة دستورية»، ثم يعاود الكرة مرة أخرى بإصدار ما اصطلح على تسميته «وثيقة نبذ العنف».
لست أعرف على وجه الدقه، ولا حتى تقريبا، ما هى علاقة الأزهر بالفقه الدستورى، مثلما لا أستطيع أن أرى أية علاقة بين الأزهر وحكاية نبذ العنف، ولئن تنطع أحدهم مدعيا أن الدين يتحكم فى مختلف زوايا ومفاصل المجتمع، فلعلنا –بناء على هذه الحكمة المتنطعة- نشهد قريبا سلسلة إصدارات أزهرية، تواكبها احتفالات مهيبة فى مقر الأزهر لإعلانها أو للتوقيع عليها ينظمها الأزهر ويشرف عليها، مرة للتوقيع على ميثاق شرف للعمل الصحفى والإعلامى، وأخرى بمناسبة إصدار الأزهر وثيقة أخلاقية تنظم عمل الأطباء والممرضين، وثالثة احتفاء بانتهاء الأزهر من صياغة مقترح أخلاقى يحكم وينظم العمل فى المجالات الهندسية...الخ....
هل هذا هو ما يريده الأزهر لنفسه؟ أم أن هذا ما يريده «السلطان» من الأزهر؟ والأهم: هل هذا ما يريده وينتظره المجتمع من الأزهر؟ ثم ما الذى دار بخاطر رموز المجتمع المدنى (بمعنى العلمانى الليبرالى) وهم فى طريقهم للتوقيع على وثيقة الأزهر المسماة «نبذ العنف»؟
وكذلك يسهم الجميع، بوعى أو بدونه، فى وضع اللبنات الأولى لمبدأ ولاية الفقيه، بتكريس دور الأزهر (المؤسسة) فى تنظيم شئون البلاد والعباد، وعندما تتحقق مؤامرة السلفيين التى أعلن خطوطها العريضة ياسر البرهامى، وينزاح شيخ الأزهر الحالى من منصبه، تكون البلاد قد سقطت فى قبضة ولاية فقيه مصنوع فى بلاد النفط والغاز.
صحيح أن مصر أكبر من أن تحكمها مؤامرة البرهامى وجماعته، لكن الصحيح أيضا أن النخب المغيبة، تسهم بحماس ونشاط فى تكريس مبدأ ولاية الفقيه، وصحيح جدا ما تردده صفحات التواصل الاجتماعى «ألبس يا شعب» ما خططه البرهامى بليل ونفذه العلمانيون بجهل.
وفى التفاصيل، تتضمن وثيقة الأزهر مجموعة من القيم الأخلاقية والمبادئ العامة، لا يختلف عليها أحد، لكنها لا تمس جوهر المشكلة الراهنة، ولا تقترب حتى من تخومها، بل تعكس –فقط- فزع أهل الحكم، مرسى وجماعته، من الطاقات اللامحدودة التى تتفجر كل يوم من المصريين.
كان أهل الحكم، كما نُقل عن محمد مرسى، يعتقدون أن الشعب مثل التلميذ الذاهب إلى رحلة، فى الصباح مملوءا طاقة وحيوية وفى المساء منهكا ومهدودا، فاكتشفوا أن نهار الثورة والثوار كله صباح، لا يعرف المساء ولا حتى (بعد الضهر)، لست أعرف ما إذا كان أهل الحكم استغاثوا بالأزهر لينقذهم، أو حتى يساهم فى إنقاذهم من شعب لا يتعب ولا يكل، وثورة تعيش صباحا دائما بكل العنفوان والحيوية، أم أن الأزهر هو من تطوع بذلك من تلقاء من نفسه، لكننى أعرف أن وثيقة الأزهر تجاهلت جوهر وأساس العنف الدائر الآن على الساحة، وهو إجرام وهمجية داخلية محمد مرسى، وقد تجاوز إجرام وهمجية داخلية مبارك وطنطاوى.
فى معارك محمد محمود ومجلس الوزراء قتلت داخلية الجنرال حسين طنطاوى الثوار بذريعة أنهم يحاولون اقتحام مبنى الوزارة، بينما داخلية محمد مرسى تلاحق المتظاهرين وتقتلهم على كورنيش النيل بامتداد المسافة من جاردن سيتى وحتى ما بعد ماسبيرو، وفيها كوبرى قصر النيل ومحيط دار الأوبرا، والراجح أن لديها معلومات تفيد أن المتظاهرين يعتزمون اقتحام النهر، بدليل عدم اهتمامها بحماية فندق سميراميس، الواقع على كورنيش النيل، فليس من بين مهامها حماية الفنادق، لكن حماية النيل، وليس من بين وظائفها استرداد المسروقات، لكن قتل المتظاهرين الذين يريدون اقتحام النهر، وربما إحراقه أيضا، ووثيقة الأزهر لا تتطرق إلى ذلك.
وكذلك يبدو لى أن وثيقة الأزهر تفهمت أسباب ملاحقة رجال الداخلية للمتظاهرين فى محيط كورنيش النيل، وتعاملت مع جرائم القتل التى يرتكبونها باعتبارها عملا مهنيا وظيفيا يؤديه رجال الداخلية بشجاعة وبسالة تستحق إشادة مكتب الإرشاد، لحماية نهر النيل من التخريب، وعلى المتظاهرين إما أن يعودوا إلى منازلهم أو أن يتقبلوا القتل بالخرطوش والرصاص الحى بابتسامة مشرقة.
تدعو وثيقة الأزهر إلى نبذ العنف، لكنها لا توجه ولا كلمة واحدة للسلطة الحاكمة التى ترتكب جريمة القتل العمد بحق شعب ثائر، ربما خوفا أو لعله مجاملة، لكنه لا يعنى فى أي من الحالتين سوى الإقرار بشرعية جرائم القتل التى تمارسها سلطة مكتب الإرشاد، وتناشد المواطنين أن يسمحوا للداخلية بقتلهم دون مقاومة.
لقد كان حريا بالأزهر الشريف أن ينأى بنفسه عن لعبة السلطان، وكان يكفيه أن يتذكر ما قاله الصحابى الجليل أبو ذر الغفارى «عجبت لمن لا يملك قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه»، مدركا أن الثوار –رغم أنهم لا يمتلكون قوت يومهم- لم يخرجوا شاهرين سيوفهم، بل مطالبهم المشروعة، فكان أن خرجت عليهم سلطة مكتب الإرشاد شاهرة خرطوشها ورصاصها الحى.
لكن لماذا نلوم الأزهر وحده بينما قادة «النضال» الذين يدعون أنهم يقاومون حكم المرشد ودستوره المشوه قد تحولوا إلى جوقة من المنشدين والمرددي...