لحركات التى إصطلح على تسميتها ب "الربيع العربي" كشفت حقيقة المجتمعات التى سحقت (بضمة على السين وكسر الحاء وفتح القاف) عقول معظم أبنائها بفعل عدة عوامل.
فقد سحقتها نظم حكم إستبدادية جاءت بعد التحرر الوطني وكانت كلها سبيكة من الجهل والفساد وعدم الإنتماء لمسيرة الحداثة الإنسانية. وسحقها تدهور كبير فى كل مؤسسات وبرامج التعليم مع وجود نظم تعليم إنتهت صلاحيتها فى كل المجتمعات المتقدمة.
وسحقها خطاب ديني توحش وذاع وشاع كان ولايزال من أكبر صناع الفجوة بين أبناء وبنات المجتمعات العربية وبين التقدم واللحاق بقطار التقدم والتمدن الإنسانيين.
وسحقها مناخ ثقافي عام جعل عقول أبنائها وبناتها تتجه للماضي (المتصور وهما بأنه كان فردوسا تنبغي العودة له) ولا تهتم إهتماما علميا بالحاضر والمستقبل وتحدياتهما ومعضلاتهما.
وهذا الكتاب الذى نشر قبل أن تبدأ أول حركات ما يسمي بالربيع العربي (فى تونس) بنصف سنة ، كان يشير للكارثة بوضوح. فقد كانت رسالة الكتاب المحورية هى أن العقل العربي قد جرفته وسحقته هذه العوامل الأربعة ، فأصبح معرضا للإتجاه بسرعة كبيرة للماضي الذى يتوهمه فردوسا لا مثيل له وما هو الا فصل من فصول مسيرة البشرية ، وفيه من ظلمات القرن السابع أضعاف ما فيه من مزايا متوهمة.
بل وأصبح أكثر إبتعادا عن اللحاق بقطار التقدم والتمدن الإنسانيين.
ومن سوء حظ المجتمعات العربية أن يقع تداعيات ما يسمي بالربيع العربي وعجلة قيادة القوة العظمي الوحيدة فى عالمنا المعاصر بيد إدارة يقودها رئيس لا أشك أن عقليته هى من عقليات العالم الثالث بكل ما يعنيه هذا الوصف. وأنا لا أقول أن هذه الإدارة هى من أفرز الحركات التى سميت بالربيع العربي ، ولكنها ساهمت قطعا فى أيلولة السلطة فى معظم حالات ما يسمي بثورات الربيع العربي لقوي ماضوية لا شك عندي فى مضادتها لكل قيم التقدم الموصوفة فى هذا الكتاب.
وليس هذا بجديد ، ففى سنة 1979 شاركت إدارة لتلك القوة العظمي تنتمي لنفس الحزب الذى يحكم منذ يناير 2009 (بمساعدة المملكة العربية السعودية) فى إنشاء الكيان الذى سيصبح بعد سنوات قليلة هو تنظيم القاعدة.
ورغم شذوذ الإعتقاد السائد لدي هذه الإدارة (ومنذ بدأت أول حركات ما يسمي بالربيع العربي) بأن حركة الإخوان المسلمين بوجه عام وفى مصر وتونس بوجه خاص قد تطورت وصارت حركات سياسية معتدلة ، فإنن هذا الإعتقاد الشاذ لم يفاجئني او يدهشني.
فقد مكنتني عشرات الزيارات لعاصمة هذه القوة العظمي وحديثي فى معظم مراكز البحوث بها من رؤية الكارثة وهى تتكون. فالعزلة الجغرافية التاريخية لمجتمع هذه القوة العظمي جعل الكثير من كبار مثقفيها وسياسيها بل وخبراءها فى شئون المجتمعات العربية يبقون عاجزين عن فهم طبيعة وحجم الطاقة التخريبية المبثوثة فى عقل معظم التيارات السياسية فى المجتمعات العربية التى تخلط السياسة بالدين.
وبدلا من أن تستعمل تلك القوة العظمي قدراتها التأثيرية الهائلة من أجل تحديث التعليم فى هذه المجتمعات (وهو أداة نجاة هذه المجتمعات الوحيدة) فقد إتجهت بشكل محموم للتفاوض مع تلك الحركات التى تخلط السياسة بالدين (وهو تفاوض بدأ وإستمر خلال السنوات الخمس التى سبقت بداية أول الثورات فى تونس سنة 2010) ظنا منها أنها من خلال هذا التفاوض سيمكنها تحويل العقرب السام الى عصفور كناريا .
ولاشك عندي أن جزءا كبيرا من المعضلة التى تواجه البشرية المتحضرة اليوم (والتى مصدرها تلك الحركات القرو - أوسطية التى تخلط السياسة بالدين) هو أن القوة العظمي الوحيدة (والعالم الأكثر تقدما) لم يصلوا بعد لمرحلة يعتبرون فيها أن "مصالحهم الإستراتيجية" التى تحرك سياساتهم "يجب" أن تتضمن "الأنساق القيمية للحضارة الإنسانية فى طورها الحالي وهو طور الحضارة الغربية.
فالمصالح لا يمكن أن تضم المنافع الإقتصادية فحسب وإنما ينبغي (مع تطور الإنسانية على مراقي التمدن الإنساني) أن تشمل "الأنساق القيمية" للحضارة الإنسانية فى أعلى تجلياتها أي فى الحضارة الغربية.
ولاشك أن حسم المعركة (فى المجتمعات العربية) بين القوي الماضوية (وتشمل كل الحركات التى تخلط السياسة بالدين) وقوي التنوير التى تؤمن بالعلم والتقدم ، سيحدث (إن عاجلا او آجلا) داخل المجتمعات العربية وعلى يد أبناء وبنات هذه المجتمعات.
إلا أن ذلك من جهة سيكون بعد صراع صعب بين "الماضويين" و "المستقبليين" ، ومن جهة أخري فإن أحد العوامل التى ستعجل بالنهاية الصحية والحضارية لهذا الصراع هو موقف او مواقف المجتمعات الأكثر تقدما ، وهل سيبقي قائما على مصالح اقتصادية فقط ، أم أن تلك المجتمعات الأكثر تقدما ستعتبر أن من مصالحها الواجب الحفاظ عليها تلك الأنساق القيمية التى هى إنسانية أكثر منها غربية ، والتى هى فى الحقيقة الإنجاز الأكبر لمسيرة التمدن والتقدم الإنسانيين قبل سائر الإنجازات المادية (العلمية والإقتصادية) ، بل أنها (الأنساق القيمية) هى أساس ومصنع التمدن والتقدم الإنسانيين