بقلم ثروت الخرباوى
بقرى هو الفيلسوف الذى قال: «عندما وصل أصحاب التدين الظاهرى إلى الحكم كاد الشعب أن يكفر»، ولعل السبب فى ذلك هو أن الخطاب الدينى الذى يطرحه أهل الحكم وأعوانهم ودعاتهم وشيوخهم يميل إلى التشديد والتنفير والتكفير، ويبتعد عن المقاصد الحقيقية للشريعة، فلم يستشرف مثلاً ـ قولاً وفعلاً ـ العدالة والحرية والمساواة والكرامة والإتقان وتعمير الأرض، بل وقف عند شكليات، ووقع فى خلل فى الأولويات، استغرق فى التعسير والتكفير، وكأن مهمته ـ ومهمتهم ـ فى الحياة هى إخراج الناس من دينهم، وخلق دولة شديدة الضيق والانغلاق على ظنٍ من أن دولتهم هذه هى دولة الإسلام!
.. ولكن ما هى تلك الدولة؟ وما هو الفهم الذى سيديرها ويدير شؤونها؟ لا تجد هذا فى خطابهم الدينى أبداً، بل لك أن تسأل: أين العدل فى دولة حكمهم، هل مهدوا له طريقاً وأقاموا له منهجاً؟ وأين الحرية عندهم وهم لا يعرفون إلا اللون الواحد، والحرف الواحد، والوجه الواحد، وكأنهم يريدون الشعب مجموعة من الريبوتات.
وأين حفظ الكرامة؟ تلك الكرامة التى قال الله سبحانه عنها: «ولقد كرمنا بنى آدم». فهل حفظوا كرامة الناس وهم ينظرون إليهم عند الاختلاف فى الرأى ويقولون لهم «نحن أسيادكم»، فيتصورون أنهم السادة وباقى الناس عبيد إحساناتهم، وأين وأين وأين؟.
فى واقع الأمر لا أجدنى مغالياً إذا قلت إن خطابهم الدينى هو أزمة فى حد ذاته، فهؤلاء الذين ينتهجون منهج الوعيد يُنفرون الناس من حيث يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وأغلب الظن أنهم لا يعرضون الدين على الناس، ولكنهم يعرضون عقدهم النفسية وطباعهم الشخصية!!..
ولكن الدين غير ذلك، ذلك أن الدين هو اليسر وهو اللين، ويبدو أن بعض الناس يفهمون من أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، «بشيراً ونذيراً» أنه «نذيراً ونذيراً» ونسوا بشيراً أو شطبوها من قاموسهم الخاص، مع أن الله سبحانه وتعالى أراد بحكمته ورحمته أن يكون الإسلام دين يسر، أما عن مظاهر يسر الدين الإسلامى فهى أكثر من أن يتضمنها حصر أو تحديد، كما أن يسر هذا الدين ليس شعاراً يردده المسلمون لترغيب الناس فى الإسلام، ولكنه واقع حقيقى تجده منهجاً له وعلامة عليه، فها هو الرسول، صلى الله عليه وسلم، يقول فى الحديث الشريف: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»، وأول ما يقابلك من يسر الإسلام عدم وجود طقوس معينة لاعتناقه، فيكفى أن ينطق الرجل الشهادتين وكفى لكى يكون مسلماً، والتيسير فى حد ذاته من مقاصد الشرع، فقد قال الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم: «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» وقال تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يحض أصحابه على التيسير على الناس، فعن أنس أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا»، وعن أبى هريرة أنه قال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، إلا أن «دعاة أهل الحكم وأعوانهم» فهموا الدين على غير مقصده، فما إن يخير أحدهم بين أمرين إلا ويختر أعسرهما وليته اختاره لنفسه ولكنه للأسف يختاره للناس، بل يأمرهم به ويتوعدهم إن فارقوا تعسيره وهجروا تشدده، (التعسير والتشدد عائدة على المُعسِر لا على الدين طبعاً).
وكنت قد قرأت فى بعض كتب الأدب عن واحد من هؤلاء المتقعرين اسمه «أبوعلقمة»، وكان يفتى فى الدين بغريب الألفاظ ويتشدد ويُعسِر على الناس تعسيراً لا يسر فيه ولا لين، وفى أحد الأيام قال أبوعلقمة لغلامه متقعراً: «أصقعت العتاريف؟».. فرد عليه الغلام وقد خبر سيده المتقعر قائلاً: «زقيلم».. فقال أبوعلقمة
لغلامه متعجباً: «وما زقيلم؟» فقال الغلام: «وما أصقعت العتاريف؟» قال المتقعر: «أردت: هل أذَّن الفجر».. فقال الغلام: «وأنا أجبتك فقلت: زقيلم أى أذَّن»!!
نقل عن المصرى اليوم : بقلم ثروت الخرباوى