بقلم / النائبة نادية هنري
ليس الميلاد حدثًا دينيًا موسميًا بقدر ما هو زلزال فكري هادئ،
أعاد تعريف العلاقة بين الله والإنسان،
وقلب تصورات راسخة عن القوة، والمجد، والخلاص.
فالفكرة الجوهرية في التجسد لا تكمن في “ولادة طفل”،
بل في القرار الإلهي بالاقتراب.
اقتراب لا رمزي، ولا مجازي،
بل اقتراب جسدي وتاريخي، داخل الزمن وحدوده.
من إله بعيد إلى إله حاضر
اعتاد الإنسان أن يتخيّل الإله في العلو:
قوة مطلقة، مسافة آمنة، وسلطة لا تُمس.
هذا التصور يمنح الطمأنينة، لكنه يحافظ على الفاصل بين المقدّس واليومي.
التجسد، على العكس، ألغى المسافة.
الله لم يرسل تعليمات،
ولم يكتفِ بخطاب أخلاقي،
بل دخل التجربة الإنسانية بكل هشاشتها.
وهنا تكمن الصدمة الأولى:
الإله غير المحدود قَبِلَ أن يُحدّ.
قوة لا تشبه القوة
في المنطق البشري، ترتبط القوة بالهيمنة،
والخلاص بالقدرة على الإخضاع.
لكن الميلاد يقدّم نموذجًا معاكسًا تمامًا.
طفل في مذود،
لا يحمل سيفًا ولا يصدر أوامر،
بل يفتح بابًا لفهم جديد للسلطة:
سلطة المحبة،
وقوة الضعف المختار.
لم يكن هذا التواضع نتيجة عجز،
بل تعبيرًا عن منطق مختلف،
يرى أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، لا من الأعلى.
التجسد كدخول في الألم
لا يمكن فصل التجسد عن مساره الكامل.
فالله الذي لبس الجسد،
لم يتوقف عند الميلاد،
بل سار حتى النهاية.
الألم، في هذا السياق،
لم يكن حادثًا طارئًا،
بل جزءًا من المشاركة الكاملة في التجربة الإنسانية.
وهنا تتحول فكرة الخلاص
من تدخل خارجي
إلى مشاركة داخلية في الجرح الإنساني.
إله يمكن رفضه
أحد أكثر أبعاد التجسد إرباكًا
هو أنه جعل رفض الله ممكنًا.
فالإله الذي يأتي متجسدًا
لا يفرض نفسه بالقوة،
ولا يُرغم البشر على الإيمان به.
هذا القرب، بكل ما يحمله من حب،
يحمل في الوقت نفسه خطر الرفض،
وهو ما يكشف طبيعة العلاقة التي أرادها الله:
علاقة حرّة، لا قسر فيها.
خاتمة
صدمة التجسد لا تكمن في غرابته اللاهوتية فحسب،
بل في تداعياته الفكرية والأخلاقية.
إنه إعلان أن القوة ليست في العلو،
بل في النزول.
وأن الخلاص لا يأتي بالسيطرة،
بل بالمشاركة.
وفي عالم لا يزال يقدّس القوة ويخشى الضعف،
يظل الميلاد دعوة مفتوحة
لإعادة التفكير في معنى العظمة،
ومكان الله،
ودور الإنسان.





