ربما لا يدرك الكثيرون وفي مقدمتهم الثوار رافعو الشعارات الفارق بين هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام" وهتاف "يسقط حكم المرشد"، إذ يبدو أن كلا الشعارين يؤديان لنفس النتيجة المرجوة، وهو الخلاص من هيمنة الإخوان، لكننا بقليل من التأمل يمكن أن نكتشف أن الشعار الثاني أكثر عمقاً وشمولاً للحالة المصرية، فإذا كان مطلب "سقوط النظام" يستهدف قمة الهرم أي السلطة، فإن مطلب جماهير الشباب والرجال والنساء ومن يصطحبون من أطفال "إسقاط حكم المرشد" يشغل كل المساحة ما بين القاعدة والقمة، فحكم المرشد ليس حكم فرد بعينه يراد الخلاص منه، وإنما هو خلاص من أصل الداء الذي ضرب بجذوره في المجتمع المصري عبر ثمانية عقود مضت، هو بداية الشفاء من ذلك التسليم والانقياد للمتحدثين باسم الله أو الحاكمين بأمر الله.
ثورات الشعوب ليست كما قد يتصور البعض رحلة سياحية أو حملة عسكرية مخططة مسبقاً بدقة، وبالتالي يحق لنا محاكمتها وفقاً لما نص عليه كتاب الثورة السابق اعتماده ونشره في الجريدة الرسمية، فالثورة فوران تلقائي يهدم أوضاعاً عتيقة راسخة، وهذا يستغرق بداية بعض الوقت ليحقق نتائج عميقة وملموسة، ليبدأ مع ذلك وبعده الجديد وبقايا القديم الذي كان مهمشاً ومقموعاً في التفاعل والصراع، والجديد الحقيقي هو بالتحديد ما سيحتاج لوقت لكي يولد ينمو ويتبلور، لذا فالنتائج الحقيقية المدهشة والمبتكرة لأي ثورة ليست ما نشهده غالباً في الأيام أو السنوات الأولى للثورات، بل في النتائج شبه النهائية بعد خمود التفاعلات وحسم الصراعات، وهو ما قد يستغرق سنوات طويلة. . ثورة مصر الحقيقية هي ما يحدث الآن في المجتمع والشارع المصري بمدنه وقراه وعشوائياته، وليس على القمة صراعاً على كراسي الحكم.
ما نشهد الآن إذن هو المسيرة الحقيقية للثورة المصرية، كما هي البداية لتصفية فلول نظام يوليو بحقبه الثلاث، ففلول ذلك النظام ليست فقط من شاركوا في السلطة الرسمية، وإنما الأخطر ذلك التيار الذي بدأ يقف على قدميه مع "حركة الضباط الأحرار"، ومالبث إن اختلف مع رموزها على اقتسام الكعكة، فانتحى جانباً أو غاص تحت الأرض ليكمن لبعض الوقت، ثم يدخل مرحلة النمو والاستشراء في عصري السادات ومبارك، فإذا ما وصلنا إلى 11 فبراير 2011 وجدنا جماعة الإخوان المسلمين هي "ولي العهد" الوحيد والمستعد لتولي العرش خلفاً للسلطان الذي خلعناه.
إذا كان مبارك السلطان المخلوع وسلفاه ناصر والسادات قد اعتمدوا على القوة العسكرية لتوطيد حكمهم، فإن "ولي العهد" المطارد طوال الوقت كان قد لجأ إلى الشارع ليؤسس لدعائم ملكه المنتظر، وكما كان حياد الجيش وانهيار الداخلية (سندا النظام) هما الأسباب الحقيقية لسقوط مبارك، فإن السقوط الحقيقي لحكم المرشد لن يكون مجرد نزول رموز الجماعة عن كراسي الحكم بأي طريقة كانت، وإنما بانهيار وتحلل الركائز الحقيقية لهؤلاء، التي هي بالتحديد استشراء ثقافة الانقياد والخنوع للمتحدثين باسم الإله، هذا يصل بنا إلى نتيجة مؤادها أن أي محاولة لإسقاط حكم الإخوان قبل اقتلاع جذور فكرهم من الشارع المصري ليست فقط محاولة فاشلة، لكنها إجهاض ليقظة الوعي المصري بعد كل ما قدمنا من تضحيات منذ 25 يناير 2011، فشتان الفارق بين الإساقط الجبري لحكم الإخوان عن طريق أي قوة من خارج النظام، ليعود للتمترس بالشارع ومعادوة خداع الجماهير وتهديد أي حركة مستقبلية، وبين انهياره الذاتي تحت ضغط الجماهير التي انفضت عنه وانقلبت لمعاداته.
ليس خافياً أن الإخوان وأذيالهم كانوا بالفعل وإلى درجة ليست بقليلة يحكمون الشارع وأغلب مؤسسات الدولة طوال عصر مبارك، ويكاد يقتصر التغير الآن على وضع مبارك وبطانته في السجن، وخروج من كان الإخوان قد قدموهم قرابين لنظام مبارك من السجن، ليعتلي الإخوان السلطة رسمياً بجانب سلطتهم الشعبية. . الآن أي قوة جبرية ستزيح الإخوان من السلطة الرسمية لن تمس وربما تعيد إحياء ما تصدع من سلطتهم الشعبية، كما لن يسقطهم عشرات أو مئات أو حتى آلاف ممن يثيرون الشغب ضد الداخلية ومؤسسات الحكم المحلي كما يحدث الآن، فالوضع هكذا ومع التناقص المستمر المرصود للمتظاهرين السلميين يبعث على الإحباط. . هي فقط التظاهرات الألفية السلمية عندما تتحول إلى مليونيات حقيقية، بالتوازي مع تصاعد الغضب الشعبي من فشل عصابة في أن تدير دولة، هي ما يشير إلى المضي قدماً في طريق عبور هذه المحنة. . لا تحتاج الثورة الثانية المرتجاة إذن إلى عنف مماثل لذاك الذي أسقط نظام مبارك، فدعائم الحكم الراهن ليست في المؤسسات المصرية التي قد تتعرض لإغارات المتظاهرين، بل إن أعمال العنف المتفرقة التي نشهدها الآن هنا وهناك تنتقص من رصيد الفعاليات الثورية لدى الجماهير التي تتأثر مصالحها، ما يترتب عليه خفوت حدة النقمة الشعبية على فشل الفاشلين، وتحول النقمة إلى الثوار.
هو التعجل في الوصول إلى النتائج قبل تأسيس قاعدة تكفل لنا تحقيق ما نريد، وهذا بالتحديد ما لم يفعله من يسيطرون الآن على البلاد، وأمام طلائع مصر المدنية إذن طريق واحد للوصول إلى مصر الجديدة، حتى لو بدا هذا الطريق طويلاً ومملاً، وقد يبدو أيضاً طريقاً باهظ التكلفة، إذا يقتضي ليس "الصبر" بوجهه السلبي، لكنها "المثابرة" بالعمل الجماهيري الجاد، حتى تتم التفاعلات المجتمعية في الشارع المصري، ويبرأ الإنسان المصري من الأوهام التي أدمنها طويلاً. . فلندع الإخوان وأذيالهم إذن على كراسيهم، ليتولوا بأنفسهم فضح شعاراتهم وخوائهم وجهالاتهم. . لنتركهم سادرين في "مشروع التمكين"، فهو وإن كان سيلحق بالبلاد بعض الخسائر، فهذه الخسائر ذاتها هي الثمن الذي يجب علينا دفعه مقابل افتضاح فشل تلك الأفكار الخرافية المهووسة التي حقنوا بها الناس خلال عقود. . لنمارس التوعية والحشد الجماهيري والعمل المخلص في الشارع المصري، ولنشكل أحزاباً حقيقية تستند لقيادات شابة تخرج من بين الجماهير، بدلاً من تلك الرموز تتصدر الساحة الآن برؤاها العتيقة البالية، فهكذا نؤسس لتغيير حقيقي يقيل مصر من عثرتها، أو بالأحرى من سقوطها من عربة الزمن وقطار الحضارة. . فليكن ذلك دون تسرع أو استعجال قد يطفئ شمس الوعي المصري الوليد.