قبل خمسة أسابيع، حين شددت الرحال إلى باريس، كنت أتوقع بالطبع أن أجد العاصمة الفرنسية خلية نحل ثقافية، كما عهدتها دائماً، خاصة فى مثل هذا الوقت من العام.
الموسم الثقافى الفرنسى يبدأ فى شهر سبتمبر بعد أن يهدأ شهرين يلتقط فيهما المشتغلون بالثقافة أنفاسهم، ويعدون العدة للموسم الجديد، الذى يسير على مرحلتين ينتهى بالأولى عام، ويبدأ بالتى تليها عام جديد، لكنهما تندرجان معاً ضمن خطة متكاملة تتصاعد خطوة بعد أخرى، وترتفع نبراتها وتتسارع حركتها وتجتذب الجمهور بما تقدمه وبما يكتب عما تقدمه وينشر ويعرض فى الصحف وأجهزة الإعلام المختلفة حتى يبلغ هذا النشاط ذروته فى أعياد الميلاد ورأس السنة وبدايات العام الجديد.
وقد وصلت إلى باريس فى هذا الوقت، وقت الذروة، فى العشرين من يناير، فوجدت أكثر بكثير مما توقعت. كأن الطائرة قد حطت بى فى بحر هائج مائج بالأعمال والعروض والأحداث والكتابات التى وجدت نفسى مشدوداً لها جميعاً غارقاً فيها، ليس فقط لأنها أعمال رفيعة القيمة بالمقاييس الفنية، لكن أيضاً لأن كل عمل فيها يجيب عن سؤال مطروح فى الفكر والعمل، على الإنسان والمواطن.
الثقافة هنا ليست تقليداً لأعمال رائجة، وليست نقلاً عن نصوص ميتة، وليست نزوة فردية أو زينة سطحية أو برجاً عاجياً معزولاً عن حياة الناس، إنما الثقافة كما قلت جواب عن سؤال. هذا الجواب يلتمسه الإنسان فيما حوله. فإن وجده لم يفلته، سواء كان هو أو كان غيره الذى أجاب. فالعلاقة الحميمة بين الثقافة والواقع لا تشترط أن نكتفى بما لدينا، ولا يتناقض معها أن نجد لبعض أسئلتنا، أو يجد الفرنسيون أو غيرهم إجابة لبعض أسئلتهم فى الفلسفة الألمانية، أو فى التصوف الهندى، أو فى السينما الأمريكية. فليست العبرة هنا بالمنبع، إنما العبرة بالمصب. العبرة بالطريقة التى نفهم بها حاجاتنا لنضع أيدينا على السؤال الصحيح، ومن ثم على الجواب الناجع.
والجواب فى الثقافة جواب من نوع خاص بالطبع، لا يبتذل نفسه فى السوق، ولا يفرط فى شرط من شروط الفن الذى ينتمى له. فالقصيدة قصيدة بكل المواصفات الجوهرية التى يجب أن تتحقق فى الشعر. والقصة قصة، والمسرحية، والصورة، والتمثال، والرقصة، والأغنية. لكن هذه كلها تظل جواباً عن سؤال.
والمجتمع الفرنسى يموج بالقضايا ويضج بالأسئلة، لأنه مجتمع حر، إذن فهو مجتمع مثقف. لأن الحرية تفتح الطرق أمام السالك، فتتعدد الإجابات ولا يبقى أمامه إلا أن يختار، إذن فعليه أن يحترم عقله وأن يفكر ويميز بين الحقيقة والوهم، وبين الصواب والخطأ، وبين الجميل والقبيح، وبين النافع والضار، والفن نشاط إنسانى لا يستغنى عنه بشر، لأنه يعبر عن طاقات وقوى لا يعبر عنها ولا يخاطبها نشاط آخر، إذن فهو جواب ضرورى من الإجابات الضرورية التى يستدعيها كل سؤال.
نحن نقرأ مثلاً «يوميات آن فرانك»، فنعرف منها عن الحرب العالمية الثانية، وعن أوروبا، وعن الحياة، وعن اليهود، وعن كاتبة اليوميات، وعن أنفسنا أيضاً ما لا نعرفه فى كتب المؤرخين، وفى مذكرات السياسيين والعسكريين.
وآن فرانك فتاة يهودية ألمانية وُلدت فى أواخر العشرينيات اضطرت للفرار مع أسرتها إلى هولندا بعد وصول هتلر إلى السلطة، لكن النازيين اجتاحوا هولندا كما اجتاحوا غيرها من البلاد الأوروبية، فاضطر والد «آن» - أوتو - فى مواجهة هذا الخطر الداهم إلى أن يحبس نفسه هو وأفراد أسرته فى مقر عمله طوال العامين اللذين مرّا قبل أن يقبض الألمان عليهم جميعاً.
من عام ١٩٤٢ إلى عام ١٩٤٤ ظلت أسرة «آن» وأسرة أخرى معها فى هذا الحبس الاضطرارى لا يغادرون مقر العمل هذا، ولا يتصلون بغيرهم، ولا يمدون أبصارهم خارج الجدران المحيطة بهم. وهم ثمانية أشخاص، خمسة من الرجال والنساء، وفتاتان «آن»، وكانت فى الثالثة عشرة من عمرها، وأختها «مارجو»، التى كانت تكبرها بثلاثة أعوام، ومعهما من الأسرة الأخرى صبى فى سن مماثلة. وجوههم متقابلة، وحركتهم مقيدة، ويومهم مكرر، الليل هو الليل، والنهار هو النهار.
كيف يمكن أن تسير الحياة على هذه الوتيرة؟ وكيف يمكن أن تكون هذه حياة؟ الشجار لا ينقطع بين الأم والأب، وبين «آن» وأختها، لكن مفارقة قد تثير الضحك، أو عيد ميلاد فرد من أفراد الأسرة يحل فينتهز الجميع الفرصة ليوقدوا الشموع ويغنوا: عيد ميلاد سعيد!
آن فرانك حوّلت هذه الحياة المعزولة الخائفة الرتيبة فى يومياتها، التى سجلت فيها كل ما مر بها وبأسرتها طوال العامين اللذين اضطروا فيهما للاختفاء - إلى عالم الترقب والتوجس وانتظار المجهول والاستماع للراديو، الكائن الوحيد الذى كان يربط الأسرة بالعالم الخارجى، وهو يصف ما كان يصنعه النازيون مع اليهود فى معسكرات الاعتقال.
وفجأة، يسمعون طرقاً عنيفاً متلاحقاً على الباب فيفتحون، وقد تأكدوا أن ما كانوا يخشون تصوره قد حل بهم، وهؤلاء هم النازيون وجواسيسهم يدخلون مندفعين فيتطاير أفراد الأسرة رعباً، بعضهم يستسلم، وبعضهم يلوذ مرتاعاً بركن معتم يظن أنه سيحميه. مشهد يذكّر بما يقع لسرب مهيض انقضت عليه الحدءات، والبقية معروفة، يساق الجميع إلى المعتقلات النازية فى ألمانيا وبولندا، حيث يتساقطون واحداً بعد الآخر خلال العام الذى قضوه فى هذا الجحيم، والوحيد الذى خرج منه حياً هو الأب «أوتو»، الذى سلمته جارة لهم يوميات ابنته التى عثرت عليها واحتفظت بها فتمكن من نشرها عام ١٩٥٠ لتنقل بعد عامين اثنين إلى اللغة الإنجليزية، ومن الإنجليزية إلى لغات أخرى بلغ عددها سبعين لغة - ليس من بينها العربية - صدرت بها عشرات من الطبعات التى وزعت حتى الآن خمسة وعشرين مليوناً من النسخ، فضلاً عن الأفلام السينمائية والعروض المسرحية التى أُعدت بلغات مختلفة واعتمدت اعتماداً كاملاً على النص المكتوب.
وقد شاهدت فى الشهر الماضى الفيلم الذى أعده التليفزيون الفرنسى عن «يوميات آن فرانك». وفى نيتى أن أشاهد العرض المسرحى الذى يقدم منذ فترة على أحد مسارح مونبارناس، وهو من إعداد إيريك إيمانويل شمت.
«يوميات آن فرانك» ليست مجرد تأريخ لسنوات الحرب، وليست مجرد وصف لما وقع فيها، لكنها استعادة لهذا الماضى، نعيش فيها الحياة التى عاشتها «آن» والرعب الذى سكنها وسكن أفراد أسرتها، فلم يتخلصوا منه إلا بالموت. وهذا هو الجواب الذى قدمته «آن» الصغيرة التى صارت كاتبة وهى فى الثالثة عشرة، ورحلت وهى فى السادسة عشرة - أقول إن يومياتها هى الجواب الذى قدمته عن السؤال المطروح الآن فى فرنسا وهو: هل يمكن أن يعود النازيون من جديد؟
لكن السؤال ليس مطروحاً على الفرنسيين وحدهم، بل هو مطروح علينا معهم. فالذى يصنعه الإسرائيليون بالفلسطينيين لا يختلف عما صنعه هتلر باليهود، والنظام الذى تسعى جماعات الإسلام السياسى لإقامته فى مصر وغيرها من البلاد العربية والإسلامية - لا يختلف عن النظام الذى أقامه هتلر فى ألمانيا وموسولينى فى إيطاليا. إذن فيوميات آن فرانك هى يومياتنا، أو يمكن أن تكون يومياتنا!
لهذا عُدت «يوميات آن فرانك» واحدة من أفضل الأعمال المائة التى صدرت فى القرن العشرين.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع