بقلم: كمال غبريال | السبت ٩ مارس ٢٠١٣ -
٣٥:
٠٧ ص +02:00 EET
أعدت أخيراً قراءة كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب دفعة واحدة على مدى يومين، الكتاب مدون بمنهج شفاهي، فلا يراجع كاتبه ما سبق له تدوينه، وإنما يكتب كما لو كان يتحدث شفاهياً، ومن ثم يكثر به التكرار إلى درجة ربما لم نشهد مثيلها في أي كتاب آخر، بحيث يمكن اختصار الكتاب إلى 5% على الأكثر من حجمه دون انتقاص لمضمونه، ناهيك عن تضمنه لفصول كاملة من كتابه السابق "في ظلال القرآن"، لكن الخطير هو الإعادة والتكرار لنفس الفكرة وبنفس الألفاظ دون مبالغة مئات المرات عبر الكتاب، وبالذات فكرة الحاكمية لله، وما يترتب على الإيمان الحقيقي بأن "لا إله إلا الله".
بالكتاب بعض سقطات منطقية قليلة لكنها عظيمة الخطورة، إذا تتركز في أكثر من محور رئيسي من محاور فكرة الكتاب الأساسية، وهو ما ينسف الكتاب من أساسه، مثل ما جاء به من مساواة في الجبرية بين "قوانين الله الطبيعية" التي تحكم العالم الفيزيائي والتي لا يستطيع البشر الفرار منها أو الخروج عليها، مع ما يراه "قوانين الله وشريعته" في الشق الأدبي أو المعنوي من الحياة، والذي يختص بالعلاقات الحياتية بين البشر. . فإذا كان الله هو من يريد للإنسان مثل هذه الجبرية الأدبية وليس "سيد قطب" وحده هو الذي يريدها ويتخيلها، فلماذا إذن لم يخلق الله الإنسان بعقل "مبرمج" على أساس هذه القوانين، فيتصرف آلياً وفقاً لها دون الحاجة إلى "جهاد ومجاهدين" لإجباره على هذا الانصياع للقوانين الإلهية؟. . فالرد التقليدي المعتاد في مثل هذا الجدل الشهير حول قضية "الجبر/ الاختيار" بأن الله جعل الإنسان مخيراً بين "الكفر/ الإيمان" غير وارد على ضوء أفكار "سيد قطب" المهيمنة والداعية إلى اكتساح العالم وضبطه وفق ما يراه "قوانين إلهية".
الفكر القطبي يزعم أنه يترك مجالاً للخيار الإنساني، ففي حدود رؤيته يكون الإيمان عبارة شقين، شق العقيدة وشق الحياة العملية وفق "القوانين الإلهية"، ويرى أن الجهاد ينبغي أن يشمل الأرض والبشر كلهم لتحقيق الحاكمية على الأرض، ويقول أن ذلك لمجرد تهيئة لقبول الناس للعقيدة ذاتها أو رفضها وفقاً لقرارهم الحر، والتناقض هنا أنه هو ذاته يقول ويكرر بلا ملل أن العقيدة تشمل بداية وبالأساس الإقرار بالحاكمية لله في كل تفاصيل الحياة. . هو هكذا كمن يقول فرض العقيدة فعلياً، مع ترك حرية الاستسلام لها طوعاً أو غصباً، ليكون هذا هو الهامش الخيالي المفترض للحرية في فكر "سيد قطب"!!
هناك أيضاً سقطة بالغة الوضوح والبساطة ومن العجب أن لم يلتلفت إليها سيد قطب رغم ما نشهده بالكتاب من جهد (مثير للإعجاب) لمحاولة الإحكام المنطقي لأفكاره، وهي تصور إمكان معرفة الناس "القوانين الإلهية" تطبيقاً لمبدأ الحاكمية لله بطريقة مباشرة ونقية، دون المرور باجتهادات بشرية لابد وأن تنسف فكرة الحاكمية لله من أساسها، هذه المعرفة المباشرة المفترضة تتناقض مع رفضه قيام "جماعة المؤمنين" بوضع تصور نظري مسبق "للمجتمع الإسلامي المثالي" تحت إلحاح العلمانيين المشركين الذين يطالبونهم بذلك على حد قوله، حيث يرى أن الواقع الإسلامي واقع حي يتشكل عبر الممارسة، وليس حالة مسبقة مصمتة، وهذا بالطبع تصور جدلي رائع جدير بالتثمين، لكن "سيد قطب" لم يلتفت أو تعامى عمداً عن أن هذا الجدل أو التطور الحي تنفيذاً "للأوامر الإلهية" لابد وأن يدخل فيه الاجتهاد البشري لتحويل "المبادئ الإلهية" إلى إجراءات تنفيذية في الواقع المعيش والذي يعترف أنه متغير.
هذا الاجتهاد البشري الذي يماثل أو هو عين ما يعتبره شركاً بالله، إذ يتخذ الناس من بعضهم أرباباً لبعض حين يأخذون التشريع من بشر حسب ما يفهم "سيد قطب" الأمر، ولا يفيد هنا القول بأن المقصود بالتشريع البشري المرفوض هو تشريع البشر لأنفسهم وفقاً لهواهم لا وفق "القوانين الإلهية"، فدخول العنصر البشري واستحالة العلاقة المباشرة بين ما يعده "قوانين إلهية" وبين عناصر تشكيل الواقع لابد وأن يدخل معه "الهوى" البشري الذي يؤثمه ويكفره، ناهيك بالطبع عن أن ما يصفه بمصطلح "هوى بشري" بما يوحي بدونيته وازدرائه قد يكون "رؤية بشرية علمية" لواقع الحال.
والغريب أن "سيد قطب" رغم رؤيته أن "الواقع الإسلامي" يتشكل عبر الممارسة انطلاقاً من مبدأ الحاكمية، وليس نظرية مسبقة محددة واجبة التنفيذ الآلي، إلا أنه لم يعر في هذا الكتاب أدنى اهتمام أو حتى التفاتة عابرة - قد يتعشم القارئ منه أن يستكملها في مقاربات أخرى - للتطبيقات التاريخية لمثل هذا الواقع في أي فترة مضت من التاريخ الإسلامي، حتى تلك الفترة الأولى التي تهيأ لها حسب قوله ذلك الجيل الفريد الذي تربى ونهل من منهل "لا إله إلا الله"، ولم يستعرض لنا مدى نجاح هؤلاء "البشر" - وليس المبدأ ذاته بالطبع – في تحقيق تلك الحالة الطوباوية النموذجية التي يتحدث عنها بكل هذا الحماس والاحتقان في الرؤية، على الأقل لكي يعطينا الأمل في إمكانية تحقق ما يريد أن يدفعنا إليه والسيف مسلط على رقابنا!!
نجد الرجل بامتداد الكتاب يعرض بوضوح وبجرأة وصراحة تحسب له فكراً مهيمناً يرى وجوب الجهاد لبسط مفهومه الخاص للتوحيد وأن "لا إله إلا الله" على كل الشعوب على سطح الكرة الأرضية، وربما لو تأكد من وجود بشر على كواكب أخرى لطالب المؤمنين بمد فكرهم وهيمنتهم إلى سائر الكواكب والمجرات بالكون، وهو يدين ويستهجن محاولات بعض مفكري المسلمين ما يعتبره انسياقاً وراء الفكر الغربي، حين يدافعون عن الحروب الإسلامية باعتبارها كانت حروباً دفاعية، ويؤكد أن تلك الحروب كانت ومازالت ضرورية سواء قامت شعوب أخرى بمهاجمة ديار الإسلام أم لم تقم، فضرورة هذه الحروب عنده أن تهيئ بيئات مختلف شعوب الأرض للحياة وفق النموذج الإسلامي التوحيدي، وبنص عبارته لتخلي ما بين الناس وبين اعتناق الدين لا لتجبرهم على اعتناقه، وكان هذا التصور يمكن أن يكون مقبولاً لولا ما سبق أن أوضحناه عاليه من أن "حرية الاختيار" التي يتيحها "سيد قطب" للناس هكذا خاوية من المضمون أو متناقضة.
يبدو "سيد قطب" خلال الكتاب محصوراً ومحاصراً عقلياً وسيكولوجياً في فكرة واحد جبرية سيطرت عليه، وافترض أنها ليست مجرد فكرة أو تصور لبشر يحبذه ويروج له، لكنه يتحدث عنها وكأنها إرادة إلهية واجبة السيادة على سائر الجنس البشري، حتى لو كان ثمن ذلك أنهار من الدماء لا تكف عن السريان إلى يوم الدين، ولعله لم يلتفت أنه ذاته من يحارب الشرك بالله عن طريق أخذ الناس القوانين من عقل بشري قد صير هو نفسه إلهاً حين أعطى لتصوراته كل هذا اليقين والصحة المطلقة، وتكرار ذات الفكرة المحورية للكتاب بذلك الإلحاح من بداية الكتاب حتى سطوره الأخيرة لا يشير فقط إلى منهجه الشفاهي في الكتابة كما أشرنا في بداية هذه السطور، وإنما يلفت انتباهنا أيضاً لحالة نفسية مسيطرة على المؤلف طول تسطيره للكتاب، وكأن هناك ما يضغط عليه نفسياً ليطحن ويطحن في نفسه وفي السطور، وكأن إعادة التكرار لذات التعبيرات والمصطلحات والفكرة سوف يؤكدها ويثبت اليقين بها. . في تصوري أن هذا الكتاب يحتاج لدراسات مستفيضة من علماء النفس وعلماء تحليل النص العالميين، لتحديد العوامل التي تدفع إنساناً لأن يفكر بهذه الطريقة، ويكتب مثل هذا الكلام، فمثل هذه الدراسات ستكون خير معين للتوصل إلى منهج لمساعدة الشعوب على الشفاء من مثل هذه الأفكار.
لقد حاول الرجل في كتابه هذا تقديم رؤية شاملة متناسقة لإيمانه الشخصي، ورغم ما نأخذه عليه من تصور الصواب المطلق لما يعتقد فيه، وتجريمه أو تكفيره لأي رؤية مختلفة لمؤمنين آخرين، وأيضاً رغم السقطات المنطقية القاتلة في المحاور الرئيسية لفكرته، إلا أن الإنصاف يقتضي القول أنه نجح في أحيان كثيرة أخرى في تقديم رؤية شاملة متناسقة، وهذا بلاشك يعطي قيمة شكلية كبيرة لإنتاجه، وإن كان ذلك التثمين لا يشترط أن ينسحب أيضاً على المضمون.
آخر ما خرجت به من قراءة هذا الكتاب، أن من يتصورون أن الإخوان وأذنابهم يكترثون لخراب البلاد أو عمارها عليهم أن يتعرفوا أكثر على هذه الكائنات وأفكارها المقدسة عبر كتابات أستاذهم/ سيد قطب وأمثاله، فكتاب "معالم في الطريق" هو الرابطة الأيديولوجية الوثيقة بين أشد المنظمات تطرفاً وهو تنظيم القاعدة وبين الإخوان المسلمين مدعي الوسطية والاعتدال، وإذا كانت المجموعة المسيطرة على الجماعة الآن ومنها رئيس جمهورية مصر مجموعة قطبية، فإن هذا يعني أن فكر تنظيم القاعدة هو ما يحكم مصر الآن، والفارق في التصريحات والسلوك العملي الآن للإخوان هو مجرد تجمل وقتي يمليه ما يعتبرونه "فقه الضرورة" ريثما يدين لهم الأمر تماماً.
kghobrial@yahoo.com
نقلا عن إيلاف
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع